التعليم في غزة: وقائع إبادة مُعلنَة
استيقظت فجر اليوم السبت (العاشر من آب/ أغسطس ٢٠٢٤م) لأكتب هذا المقال، فوجدت الاحتلال قد ارتكب مجزرة (مدرسة التابعين) في غزة المنكوبة المذبوحة من الوريد إلى الوريد، راح ضحية المجزرة أكثر من (١٠٠) قتيل، ومئات المصابين من الأطفال والشيوخ الذين قُصفوا وهم يقيمون الصلاة فيها... مدنيون عابدون مسالمون ممزقون محترقون، يحاربهم أكثر الجيوش إجرامًا وحقارة في العالم، مدعومًا من نُظم دكتاتورية لا تعرف للرحمة سبيلًا ولا للحق طريقًا.
يباد العلماء والعلم وطلابه على مرآى ومسمع من العالم، وببث مباشر، دون أن يتحرك له جفن أو يُسمع له صوت قوي يطالب بوقف هذه الإبادة الجماعية المتواصلة منذ أكثر من عشرة شهور، لشعب يستحق الحياة.
لقد قتل الاحتلال، وفق إحصاءات محلية ودولية، نحو (١٠،٠٠٠) طالبة وطالب[1] ، وأكثر من (١١٠) علماء، ومئات المدرسين، ودمر أكثر من (٥٠٠) مدرسة وجامعة ومعهد تدميرًا كاملًا أو جزئيًا؛ بواقع ٧٠٪ تقريبًا من المؤسسات التعليمية[2] ، علمًا أن هذه الأرقام مرشّحة للارتفاع مع تواصل المجزرة.
لقد فقدت غزة سنة كاملة من التعليم، وها هي تدخل سنة جديدة من الفقد...
إن الحق في التعلم والتعليم ميزة، فهو حق اقتصادي واجتماعي وثقافي، ويمثل أيضًا حقًا مدنيًا وسياسيًا...
لذا أقدمت قوات الاحتلال على استهداف المدنيين والأعيان المدنية دون مراعاة لمبدأي التناسب والتمييز، حيث قصفت المقار الأمنية والشرطية والوزارات والمؤسسات التعليمية والمشافي ودور العبادة ومساكن المواطنين وممتلكاتهم، وهي جميعًا أماكن محمية وفقًا لاتفاقيات جنيف، وقد كان لهذا العدوان الأثر المباشر على العملية التعليمية في قطاع غزة، حيث تعرضت المراكز والمؤسسات التعليمية إلى اعتداءات عديدة من قوات الاحتلال، وعملت آلة الحرب الإسرائيلية على شل العملية التعليمية بشكل كامل، فلم يتمكن تلاميذ رياض الأطفال والمدارس وطلاب الجامعات من التوجه إلى مقاعد الدراسة، وبسبب نزوح معظم الناس من منازلهم، فُتحت المؤسسات التعليمية كمراكز إيواء لهم، حيث أدى ذلك كله إلى تعطل العملية التعليمية وتوقفها طوال فترة العدوان منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م والمستمر حتى كتابة هذه السطور.
يشكل كل هذا وذاك أكبر جريمة دولية وقعت في العالم الحديث، وستستمر ما دامت الأمم نائمة في سباتها؛ تقبل بالهوان والذل.
لقد أعلنت المحكمة الجنائية الدولية تقدم (5) دول بطلب للتحقيق في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (2023 – 2024م).
وأكثر ما نخشاه؛ بل ونتوقعه، المماطلة والتسويف في التحقيقات والمحاكمات، إذ ما زالت المحكمة الجنائية الدولية تتباطأ في الإجراءات اللازمة لفتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية التي اقترفت في قطاع غزة سنة 2014م، وهو ما يفقد القانون الجنائي الدولي قيمته، فيتهافت كغيره من القوانين والقرارات الدولية التي صدرت لصالح دولة فلسطين منذ سنة 1948م.
كنا نعتقد أن القانون الدولي بفروعه وخاصة القانون الجنائي الدولي والقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان... سيكون لها دور كبير في حماية المدنيين والأعيان المدنية زمن الحرب على غزة وغير غزة، لكننا فوجئنا بأن تلك التشريعات ما هي إلا حبر على ورق، وأنها الابن المدلل للصهيونية العالمية، وهذا ما يؤكده الواقع.
لقد أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا تاريخيًا بتاريخ 26/1/2024 م يلزم إسرائيل باتخاذ تدابير مؤقتة لمنع الإبادة الجماعية.
ويعد القرار صفعة قضائية دولية جديدة في وجه الكيان المحتل، إلا أنه لم يكن على القدر الكافي من العدالة الدولية والإنسانية.
والحقيقة: إن هذا القرار يمثل تقدمًا مهمًا في الصراع القانوني بين فلسطين والاحتلال بدعم من دول العالم الحرّ وجنوب أفريقيا بصفة خاصة، لكنه على أرض الواقع لا يقدم كسرة خبز لإنسان جائع، ولا شربة ماء لطفل ظمآن، ولا حبة دواء لمريض يتأوه من شدة العلل، ولا يحمي فتاة من نار القصف، ولا عجوزًا من برد الشتاء... ولا... ولا....
لقد أصبح القانون الجنائي الدولي وتوابعه حبرًا على ورق، لم يستطع أن يحمي طفلًا واحدًا من ويلات الحرب، ولم تستطع أعلى محكمة في العالم وقفَ المجازر والمذابح التي تقترف على مدار الساعة.
وفي الختام:
هم يعلمون أننا تواقون للتعلم... ويعلمون أننا بالتعلم نحرر العباد قبل البلاد... لذا يدمرون كل ما يسهل الوصول للدولة الفلسطينية العتيدة. وعندها لم يعد أمامنا سوى القول: " فلتذهب هذه القوانين وتلك المحاكم إلى غيابات الجُب، وملعون من يناصرها أو يدافع عنها ليوم الدين؛ ما لم تناصر حقنا".
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا وفقهنا ورسخنا في العلم؛ إنك سميع الدعاء.
[1] تصريحات وزير التربية والتعليم الفلسطيني
[2] إحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بتاريخ 6 أغسطس 2024
القاضي الدكتور عبد القادر صابر جرادة
أستاذ القانون الجنائي المشارك رئيس المركز العربي للعلوم الجنائية