غزة: ماذا تبقى من التعليم في زمن الإبادة؟
"أقضي ساعات طويلة في طابور يومي للحصول على الماء، ونقله من مكان بعيد لخيمتنا في مواصي خان يونس، وأبحث عن الحطب لاستخدامه في الطبخ، وأعمل في بيع البسكويت الذي تعده والدتي من أجل شراء احتياجاتنا اليومية. كنت أحتفظ بكتبي المدرسية على أمل استكمال السنة الدراسية، إلا أنني فقدتها أثناء نزوحنا من مكان إلى آخر".
طالب فلسطيني في الصف الخامس في غزة، في مدرسة تتبع وكالةَ الغوث
تستهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي بشكل منظم المنظومة التعليمية في قطاع غزة من مدارس وجامعات ومرافق تعليمية، وتستهدف الطلاب والكوادر التعليمية بالقتل والإصابة والاعتقال، وتضعهم في ظروف تشكل تهديدًا جديًا على حياتهم وسلامتهم الجسدية، فعملية تدمير البنية التحتية الخاصة بالتعليم على نحو ممنهج تهدف إلى تعطيل الدراسة أطولَ فترة ممكنة، ما سيؤثر بالضرورة على مستقبل الطلاب واستقرارهم النفسي.
يؤكد مركز الميزان لحقوق الإنسان على أن التعليم هو حق أساسي من حقوق الإنسان، وهو من الحقوق التمكينيّة التي تساعد البشر على التخلص من الفاقة والفقر، وأن الممارسات اليومية والجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلي في إطار حرب الإبادة الجماعية تشكل انتهاكًا جسيمًا للمعاهدات والاتفاقيات الدولية بما فيها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والقانون الدولي الإنساني الذي حدد وفرض مجموعة من الالتزامات القانونية على دولة الاحتلال، يَحظُر بموجبها مهاجمة المرافق التعليمية أو استهداف الطلبة أو إعاقة تنمية قطاع التعليم وتطويره. وتشكل الممارسات الإسرائيلية انتهاكات جسيمة ومنظمة ترقى لمستوى جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية.
أوصى مركز الميزان لحقوق الإنسان في تقرير جديد أصدره حول التعليم بعنوان "إبادة التعليم في قطاع غزة في سياق الإبادة الجماعية"
[i] المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لوقف إطلاق النار وجريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل، وفك الحصار، وتوفير ممرات آمنة لإدخال المساعدات وإخلاء الجرحى والمرضى، لا سيما من هم بحاجة لإنقاذ وتدخل طبي عاجل، وإدخال المساعدات الإنسانية دون أي معيقات، وطالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بملاحقة المسؤولين الإسرائيليين وكل من أمر بارتكاب جرائم بحق المدنيين الفلسطينيين، كما طالب بتكثيف الجهود الدولية والمجتمعية للعمل على إعادة بناء المدارس والجامعات التي دمرت لضمان سير المسيرة التعليمية وتعويض الفاقد التعليمي.
وأكد المركز على العمل على إعادة تأهيل الطلاب نفسيًا واجتماعيًا من خلال برامج دعم نفسي وتأهيلي شامل لكافة الطلاب في المدراس والجامعات ورياض الأطفال، كما طالب الجهات المختصة، لا سيما "اليونيسيف" بالتنسيق ووضع إستراتيجية تعليمية وخطة طوارئ مستقبلية تكون قابلة للتنفيذ بعد انتهاء جريمة الإبادة الجماعية، كما طالب في تقريره بإنشاء مناطق لإيواء السكان المهجرين والمدمرة منازلهم بغرض إفراغ المدارس والمنشآت التعليمية وإعادة تأهيلها لاستقبال الطلبة.
وتكريسًا لجريمة الإبادة الجماعية، فإن قوات الاحتلال تحاول القضاء على كل سبل الحياة في قطاع غزة، وعلى ما تبقى للسكان من قطاعات مهمة، كقطاع التعليم بكل مكوناته من مدارس ومراكز ومقرات تعليمية وجامعات، وحتى الطلاب والمعلمين وجميع العاملين في هذا القطاع، ولم يستثنِ الاستهداف أيًا من المرافق التعليمية سواء أكانت تابعة لوزارة التربية والتعليم أم لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أم حتى الأهلية والخاصة.
أولًا: المدارس
ومنذ اليوم الأول للعدوان، توقفت العملية التعليمية في المستويات كافة؛ في الجامعات والمدراس والمراكز التعليمية والتدريبية، وتحولت المدارس من أماكن تعليمية إلى مراكز إيواء يستخدمها السكان النازحون الذين هُجروا من منازلهم قسرًا، ومع ذلك لم تتوان قوات الاحتلال عن استهداف هذه المدارس والمنشآت وهي مكتظة بالنازحين، لتوقع المئات من الشهداء والمصابين، حتى وإن كانت المدرسة أو المنشأة تتبع لهيئة دولية كالأمم المتحدة وترفع علمها.
ووفقًا لتقارير الأونروا فإن هناك العديد من الشهداء والجرحى والمفقودين بين الطلاب والكادر التعليمي، لكن حتى الآن لم تتوفر إحصائيات دقيقة حول العدد الإجمالي للضحايا. بينما تشير آخر التقارير إلى استشهاد 197 موظف أونروا. كما أن ثلثي مدارس الأونروا في غزة قصفت منذ بدء الحرب، وتدير الأونروا (188) مبنى تعليميًا، تعرضت غالبيها لأضرار مختلفة، وتضم المدارس الحكومية (305,000) طالب موزعين على (448) مدرسة، دمرت قوات الاحتلال منها (285) مدرسة بشكل كامل، وقتلت (9,000) طالب وطالبة، من المستوى المدرسي والجامعي، وأصابت (14,000)، من بينهم ما يقارب (3,000) طالب وطالبة أصبحوا من ذوي الإعاقة. وقتلت (400) معلم ومعلمة في المدارس، و(100) من كوادر الجامعات.
ثانيًا: الجامعات
في حين بلغ عدد الطلاب الجامعيين في قطاع غزة (88,000) طالب وطالبة، ملتحقين في (19) جامعة وكلية ومعهد تتبع التعليمَ العالي، دمرت قوات الاحتلال أكثر من 80٪ من مباني تلك الجامعات: الجامعة الإسلامية، وجامعة الأزهر، وجامعة الإسراء، وجامعة الأقصى، وجامعة فلسطين، وجامعة غزة، وجامعة القدس المفتوحة، وكلية فلسطين التقنية- دير البلح، والكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا- خان يونس، والكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، وكليات الأونروا، وكلية فلسطين للتمريض، وغيرها من كليات.
ولم تتح قوات الاحتلال أي فرصة أمام الطلاب لاستكمال مسيرتهم التعليمية، نتيجة الظروف غير الإنسانية والكارثية التي خلقتها من خلال استهدافها المباشر السكانَ والمدارس والجامعات، ومن خلال الحصار وقطع الكهرباء والإنترنت، وانكفاء الأسر على إيجاد أدنى مقومات النجاة مثل المياه والغذاء والدواء، إلى جانب النزوح من مكان لآخر. كما عمدت قوات الاحتلال إلى تدمير أرشيف الوزارة والجامعات والمدارس وسجلاتها ووثائقها، وقتل معلمين ومحاضرين وأصحاب كفاءات وتخصصات أخرى، وسفر عدد آخر منهم خارج قطاع غزة، ما سيشكل تحديًا أمام محاولات إعادة قطاع التعليم للعمل كسابق عهده.
ثالثًا: محاولات تحت واقع الإبادة
على الرغم من جميع محاولات إعادة التعليم، سواء أكان عن بعد أم بشكل وجاهي عبر بعض المبادرات الفردية من السكان النازحين أو المعلمين أو المؤسسات التعليمية ومؤسسات المجتمع المدني، فإنها تبقى محاولات تصطدم بحقيقة استمرار حرب الإبادة التي تعطل جميع المبادرات، مثل القصف المتواصل والنزوح المستمر من مكان لآخر، وفقدان الأسرة، والمنزل، والمدرسة، والكتب.
عملت وزارة التربية والتعليم على مساعدة الطلاب والطالبات في العمل بنظام التعليم عن بُعد لمن يستطيع الالتحاق سواء داخل غزة أو خارجها، والتحق في جمهورية مصر تقريبًا (15) ألف طالب مدرسي، في حين كان من المستحيل على الطلاب من قطاع غزة الالتحاق بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وعدم القدرة على الوصول إلى الإنترنت بشكل دائم، أو شحن هواتفهم. كما أصبح معظم الطلاب يقضونيومهم في مساعدة أسرهم في توفير مستلزمات الحياة اليومية من تعبئة المياه ونقلها بعد الانتظار ساعات في الطابور، إلى تجميع الأخشاب للطهي، والعمل من أجل توفير مستلزمات الحياة الأسرية.
هذا وأنهى الطلبة في فلسطين بمحافظات الضفة الغربية والقدس والخارج، امتحانات الثانوية العامة يوم الخميس 10 يوليو/تموز 2024، وتقدم لها 1,320 طالبًا وطالبة من قطاع غزة متواجدين في جمهورية مصر و24 دولة أخرى في العالم عبر سفارات دولة فلسطين في هذه الدول، في حين حُرم (39,000) طالب وطالبة من قطاع غزة من تقديم امتحانات الثانوية العامة، ولم يتمكن الآلاف منهم من السفر بعد سيطرة قوات الاحتلال على معبر رفح وإغلاقه في بداية شهر مايو/أيار من العام الحالي 2024.
"لقد انقلب مستقبلي رأسًا على عقب، وتحولت أحلامي من أن أكون إنسانًا متعلمًا ومستعدًا لدخول الجامعة، إلى إنسان مهمش بدون مستقبل وأعمل كامل يومي لتوفير المستلزمات الضرورية لعائلتي، كنت أطمح أن أسجل بتخصص هندسة ديكور في الجامعة، ولكن الآن أصبح حلمي أن تنتهي الحرب، وأن أستطيع العودة لمدرستي لأستكمل دراستي".
طالب الثانوية العامة أدهم داوود، الفرع الأدبي من مدرسة هارون الرشيد بخان يونس
فتحت وزارة التعليم باب التسجيل الإلكتروني للطلاب في قطاع غزة للالتحاق بجامعات الضفة الغربية، والتحق بالفصل الدراسي الثاني نحو (20,000) طالب وطالبة، أما الفصل الصيفي فالتحق به نحو (57) ألف طالب وطالبة، إلا أن هذه الأعداد لا تقارن بمن لم يتمكن من التسجيل، حتى من التحق فإن فرصة استمراره غير مضمونة بسبب استمرار العدوان الإسرائيلي. وقد أدى العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة للشهر العاشر على التوالي إلى تدمير المنظومة التعليمية بأكملها، ووضع مئات آلاف الطلبة في جميع المراحل التعليمية الأساسية والعليا أمام مستقبل مجهول، والأمر لا يقتصر على فقدان السنة الدراسية الحالية وحسب، فالتدمير الممنهج للمنشآت التعليمية والبنية التحتية والمنازل، جعل من الصعب وضع تصور وخطة لإلحاق الطلاب بمقاعدهم الدراسية ما بعد العدوان. كما أن تحويل مدارس الأونروا إلى مراكز إيواء سيعمل على تأخير عملية استئناف الدراسة بعد انتهاء العدوان، وسيزيد الضغط على البنية التحتية التعليمية المتضررة بالفعل، كما سيتطلب بذل جهود كبيرة لإعادة تأهيل المباني وتجهيزها لاستقبال الطلاب مجددًا، غير أن ما فقده الطلاب لا يمكن تعويضه، وسيؤثر بشكل كبير على تحصيلهم الأكاديمي وتطورهم الشخصي، وعلى احتمالية زيادة نسبة التسرب من المدارس، والتأخر في التقدم الأكاديمي، والتعرض لمخاطر عمالة الأطفال، والزواج المبكر، وتدهور مفاهيم حقوق الإنسان لدى الطفل واهتزاز انتمائه لهويته.
الآثار غير المباشرة للإبادة الجماعية
على قطاع التعليم في قطاع غزة
إن حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والتي شملت قصف المنازل ومراكز الإيواء على رؤوس ساكنيها دون إنذار مسبق، وقتل وإصابة من فيها، وتدمير مقومات الحياة، تسببت بآثار كارثية على مختلف القطاعات، بما فيها قطاع التعليم.
إن لاستمرار فرض حصار كامل على قطاع غزة، ومنع إدخال الوقود، وقطع إمدادات الماء والكهرباء والمساعدات الإنسانية، واستخدام التجويع كسلاح حرب، واستمرار إصدار أوامر التهجير القسري، آثارًا نفسية وجسدية كارثية على الأطفال، ستضعف من مقدرتهم على التحصيل العلمي والأكاديمي، خاصة أولئك الذين حرموا من أحد والديهم أو كليهما، أو فقدوا طرفًا أو أكثر من أطرافهم، أو نتجت عن إصابتهم إعاقات دائمة، ناهيك عمن دُمرت منازلهم بكل ما فيها، ولم يتبق لديهم أي مأوى.
الآثار النفسية لحرب الإبادة وأثرها على التعليم
تتضمن الآثار النفسية العميقة التي يعاني منها الطلاب والمعلمون جراء الأحداث المأساوية التي شهدوها-مثل الاستهداف المباشر، وفقدان الأحبة والمأوى والتهجير الجماعي غير الإنساني، والصراع اليومي المستمر من أجل البقاء، وتفاقم الظروف المعيشية المتردية، ومشاهد القتل والدمار - آثارًا نفسية عميقة على أطفال قطاع غزة، يمكن أن يتضمن هذا التأثير تولُد عواطف سلبية لدى الأطفال مثل الخوف والقلق والاكتئاب، والصدمة النفسية بسبب الضغط النفسي المستمر والخسائر المادية والبشرية، مثل فقدان الأقارب أو المنازل. كما يمكن أن يؤثر العدوان على سلوك الأطفال ونمط حياتهم اليومية، مثل تغييرات في نمط النوم والتغذية والعلاقات الاجتماعية. كما قد يتعرض الأطفال للإصابات الجسدية المؤلمة أو فقدان الأحباء، مما يزيد من حاجتهم إلى الدعم النفسي والعاطفي للتعافي من تلك التجارب المؤلمة، وتشير المعطيات إلى أن هناك أكثر من (816,000) طفل في قطاع غزة بحاجة إلى مساعدة نفسية.
تشير تقديرات اليونيسف إلى أن ما لا يقل عن (17,000) طفل في قطاع غزة غير مصحوبين بذويهم أو منفصلين عنهم. تتأثر الصحة النفسية للأطفال بشدة، وتظهر عليهم أعراض مثل مستويات عالية للغاية من القلق المستمر، وفقدان الشهية، وعدم القدرة على النوم، ويعانون من نوبات انفعالية أو ذعر في كل مرة يسمعون فيها أصوات الانفجارات، وكانت اليونيسف تقدر أن أكثر من (500) ألف طفل كانوا بالفعل بحاجة إلى خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي في قطاع غزة، واليوم تشير تقديراتها إلى أن جميع الأطفال تقريبًا يحتاجون إلى خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، أي أكثر من مليون طفل.
كل ذلك سيلقي بظلاله على المسيرة التعليمية في حال وقف عمليات الإبادة الجماعية، فالصدمة التي تلقاها الطلاب لا سيما الأطفال جراء مشاهد الدمار والقتل وفقدان أعضاء الأسرة والمعيل، ستؤثر بشكل كبير على تحصيل الطلاب وانتظامهم التعليمي في حال عودة انتظام الدراسة في المستقبل، هذا وتعاني الأُسر في غزة الأمَرين في محاولتها الحفاظَ على سلامة أطفالهم، إلا أن هذا الأمر يزداد صعوبة يومًا بعد يوم مع اشتداد وتيرة القصف، فالعديد من البيوت قد دُمرت، وانتهى المطاف بالكثير من الأطفال تحت الأنقاض، وأصيب أكثر من (9,000) طفل في قطاع غزة، حيث ترك العديد منهم ليصارعوا آلام فقدهم لذراعٍ أو ساق.
[i] لينك لمن يرغب بالاطلاع على التقرير كاملا: https://www.mezan.org/uploads/files/