قبل أن يأتي الصحافي المُتقن للذكاء الإصطناعي، ويحتل مكانك في إعلام المستقبل

احترامًا لكل دقيقة من وقتكم القُراء الأكارم، عادة لكتابة مثل هذا المقال تكون لي طقوس شبه ثابتة على مر السنين. ففي حال كان المقال لرأي أود مشاركته، أكوّن أكبر قدر من الاطلاع حد الاستفزاز على مدار أيام، ومن ثم في ذروة الإلهام أنطلق مسرعًا للكتابة حيثما كنت. غالبًا ما تكون هذه اللحظة في ساعة متأخرة من الليل بعد قراءة مادة أخرى، أو بالطريق في أقرب مقهى للشارع بعد سماع حلقة بودكاست عن المجال الذي أود الكتابة حوله. ونادرًا ما تكون في مثل هذه الأماكن قهوة طيّبة لا تشوّش التركيز، كما في هذه اللحظات وأنا على طاولة صغيرة حمراء. 

هذه الطقوس التي تختلف بين كاتبة وقارئ، يخيّم عليها تهديد بأن تندثر من حياة البشرية بفعل الروبوتات، أو لنسميه بما يُفضل أصحاب الاختصاص تسميته في زماننا: الذكاء الإصطناعي. لا نتحدث عن مستقبل بعيد ولا عن تقنيّات في التخطيط، إنما كان باستطاعتي فعل ذلك منذ أشهر، إلا أن مُتعتي في الكتابة أمهلتني بأن تكون هذه السطور إنسانية. إلا أن علي الاعتراف، لكتابة أجزاء من هذه المقالة تمت الاستعانة ببعض أدوات الذكاء الاصطناعي في البحث والإعداد وتجميع الأفكار، وحتى أن جُملتين مما تقرأه أعينكم تمت بواسطة الـ"بوت" إيّاه. لكم أن تخمنوا أي منها لاحقًا.

العام الأكثر جنون وسرعة في تاريخنا

 اقتباسات عديدة من علماء ومطوّري قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative AI، الذي يعمل على محاكاة القدرات البشرية من خلال البرمجيات، تُظهر بأنهم لم يتوقّعوا هذا الحد من الإقبال من جهة والتسارع الهائل في قدرات وتنوّع النماذج التوليدية. داخل الشركات الكُبرى تدور المنافسة منذ سنوات عديدة، إلا أننا عموم المستخدمين انكشفنا على القدرات المبهرة للذكاء الاصطناعي في نهاية عام 2022. حينها اقتحمت حياتنا روبوتات الدردشة ذات النماذج اللغوية الكبيرة مثل ChatGPT و Copilot و بارد و LLaMA، بالإضافة إلى أنظمة فن الذكاء الاصطناعي لتحويل النص إلى صورة مثل Midjourney و DALL-E وغيرها.

 ومع سرعة انتشار الاستخدام في كافة مجالات الحياة والعمل، زادت شهية الشركات المُنشئة وازداد التطوير قدرة، استثمارًا واهتمامًا. لنكون في مطلع عام 2024 بعد مضي العام الأكثر سرعة وجنونًا في تزايد قدرات هذه البرمجيات، فلو حاولت أن أطلعكم على أبرز ما وصلنا إليه من قدرات لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، ستصبح هذه القدرات قديمة حتى تصل هذه السطور إليكم. ومن هنا الخلاصة إلى أن هذا التطوّر التكنولوجي لا يشبه أي من التحوّلات الرقمية من سابقاته: الثورات المتتالية في المئة عام الأخيرة من الصناعية، وحتى ثورات الإنترنت، والتطبيقات في الهواتف الذكية، شبكات التواصل وغيرها - احتاجت كل منها إلى عقد من الزمن على أقل تقدير لتكون في جعبة كل منا. أمّا في حالة الذكاء الاصطناعي ففي سنة واحدة فقط يدور الحديث عن أكثر من 100 مليون مستخدم ثابت لهذه الأدوات في عامه الأول!

الإعلام ما على رأسه ريشة

 ما زال الكثير من الصحافيين يرفضون إزاحة الستارة والنظر من النافذة إلى العاصفة التي تدور في الخارج، وكأن موجة الذكاء الاصطناعي وتأثيراته التي بتنا نشهدها في الكثير من مجالات الصناعة والتوظيف، بأنها ستمر عنهم مرّ السّحاب. لربما هو عدم الرغبة في معرفة القادم، أو قلّة الانكشاف التقني أو حتى الرهان على أن مجال الصحافة والإعلام محمي من أن يستطيع روبوت استبدال الحس البشري في تحرّي القصّة وروايتها وتحليلها. لكن أيًا كانت الأسباب، فلا بُد من التيقّن صناعة ضخمة تعمل على زيادة دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في كل مراحل العمل الإعلامي من كتابة المحتوى بشتّى أنواعه، جمع الأخبار، تحليلها، زيادة التوزيع وحتى تخصيص كل جمهور هدف بلغة إبداعية تناسبه. 

العديد من الأمثلة حول العالم بدأ فيها ظهور الدمج لأدوات الذكاء الاصطناعي في الإعلام من أشهر طويلة. من وكالات الأنباء الكبرى مثل "رويترز" التي تُفعّل خوارزميّات خاصة لجمع الأخبار المتناقلة في وسائل التواصل الاجتماعي، وشبكة "سي إن إن" الأمريكية التي توظّف الذكاء الإصطناعي لإنشاء مقاطع فيديو مخصصة بحسب اهتمامات المستخدمين بتطبيقها، شبكة الجزيرة التي تعتمد على أداة تساهم في مهام الإعداد بالبحث داخل مكتبات الفيديو والصوت، شبكات محلية أخرى تعتمد عليها في سبيل فحص المعلومات الصحيحة أو الأخبار الكاذبة "فييك نيوز". 

توفير الطاقة لا يعني الاستغناء عن دور الصحافيين

 مهنة الصحافة والإعلام مرّت بالعديد من التحديات، وفي السنوات الأخيرة أبرزها بطبيعة الحال شبكات التواصل والتطوّر التقني. إلا أن هذا لم يؤد إلى اندثارها، إنما أخذ نقل القصّة والخبر شكلًا جديدًا يتناسب مع العصر. وهنا هو الحال مع الذكاء الاصطناعي التوليدي وثورته التي نشهد مطلعها. فالاستخدامات التي يُمكن للإعلاميين أن يستعينوا بها من برامج متطوّرة هو ضرورة لتقليل الفجوة على مستوى الإعلام المحلي مع العالمي، أو على الأقل مع الإعلام الإسرائيلي الذي يتمتع بميزانيات بأضعاف مضاعفة وسِعة في حريّة الكلمة ومحدودية لدى جمهور الهدف وغيرها من الأفضليات المنزوعة من الإعلام العربي. وهنا برأيي الفرصة حتى للإعلام المحلي غير القطري، أن يطوّر من آلياته ليدمج الذكاء الإصطناعي في مجمل مهامّه الصحافية. 

هذا التطوّر المنشود لربما لن يُعيد كامل الجمهور العربي في بلادنا إلى الاعتماد فقط على الصحافة المحليّة، لكن من شأنه أن يساهم في الحفاظ على مسافة منطقية مما سيراه المشاهد من بلداتنا في قنوات ومواقع عالمية بالعربية وغيرها. فمن يظن أن برامج الدردشة المجانية اليوم ليست قادرة على ترديد جُمل حفظها القارئ والمستمع مثل "وهرعت طواقم الإسعاف إلى مكان الحدث لـ…" أو الجملة المعهودة "وجاء على لسان الناطق باسم الشرطة بأنها فتحت تحقيقًا في ملابسات الحادث" وغيرها، من يظن أنها عسيرة على الكتابة بأساليب عديدة فهو واهم. وإن لم يكن المحرر على أن يحرر الصحافيين من عملهم لوجود الذكاء الإصطناعي في أيامنا المقبلة، فهو بالتأكيد سيستبدلهم بمن يمتلك القدرات باستخدام هذه التقنيات المتطورة ويوظفها لزيادة النجاعة والإتقان في عمله!

قبل ما نقول "يا ريت"، صحافة متقدمة الآن!

 ليست هناك معادلة أو وصفة سحرية لاستباق الأحداث وكسب كل ما تقدمه برمجيات الذكاء الإصطناعي على الصعيد الإعلامي. فكما هو متوقع، هذه النقلة لها أيضًا أثمان ومخاطر ستطال قطاع الصحافة كما غيره. لكن ما كما هو الحال في كثير من المكاتب الإعلامية مع فناجين القهوة الكثيرة التي تُسكب بعد أن برُدت وفقدت من مذاقها، كذلك هو الحال في محاولة اللحق في ركِب استخدامات الذكاء الإصطناعي في الصحافة منذ بدايته. 

فأنا على يقين بأن أي محرر سيسعد باستقبال تعقيبات قُراءه ومشاهديه على تقرير يظهر تحليل بيانات متعلقة في آفة العنف والقتل التي تجتاح مجتمعنا بالاعتماد على برمجيات الذكاء الاصطناعي، أو إنشاء محتوى تفاعلي مخصص للأطفال يساهم في تطوّر منظومته التعليمية، أو حتى بالكشف عن زيف أو تضليل بعض البيانات من المجلس المحلي باستخدام هذه الآليات. تكاليف أقل، معايير وجودة إعلامية أكبر. أما الآن فقد حان الوقت لترك الطاولة الحمراء، فيكفيني منها أنها من إعوجاجها لم تُسقط القهوة المحروقة التي بردت.

أنس أبو دعابس

استراتيجي تسويق وديجيتال ومقدم البودكاست التقني "صوت التك"

شاركونا رأيكن.م