الذكاء البَشري للتحايُل على "فَلاتر" الذكاء الاصطناعي

يَعلم جميع من تابع الحرب على غزة أن الحرب الإلكترونيّة الموازيّة كانت ولا تزال شَرِسة بين الرواية الفلسطينية وتلك الإسرائيلية. ورأَينا عن كَثَب انتقال معظم النّاس من استهلاك الأخبار من القنوات الرّسمية وفقدان الثقة بها، إلى ساحات الشبكات الاجتماعية، والبحث عن صوت الحقيقة مِن مواطنين أو صحافيين محليّين ينشرون من قلب الحدث ويصوّرون ما يجري من دمار وقتال.

 بما أن الإنستغرام، الفيسبوك، X - تويتر، والتيك توك هي الأكثر انتشارًا، فمن الطبيعي أن تدور فيها حَرب موازِية، حرب الروايات وحرب الحقيقة. فرأينا حسابات تختفي، وأُخرى تُحجب، ومنشورات تزيد بشكل مفاجئ وأُخرى تَضعُف بشكل لافت. فماذا حدث؟ هل تمت برمجة الخوارزميات لتكون أيضًا بمعايير مزدوجة؟ وهل تمّ تغيير الخوارزميات خلال الحرب؟ أوّلًا من المهم أن نفهم أن الشركات لا تُعلن بتاتًا عن خوارزميّاتها وتُبقيها كالصندوق الأسود الذي تطّلع عليه قلة قليلة ممن يديرون سياسة تلك الشركات لتوجيهها وفق أجندتها الاقتصادية السّياسيّة والثقافيّة، وملاءمة كلّ ذلك وفق الأحداث والسّياقات. فمعظم هذه الشركات أمريكيّة والعلاقة بين السياسية من جهة، التكنولوجيا والاقتصاد من جهة أخرى علاقة وطيدة، ومصالحها غالبًا مشتَرَكة. وبهذا فقد تم توجيه الشبكات الاجتماعية إلى إضعاف الرواية الفلسطينية والتّحيّز بشكل بارز للرواية الإسرائيليّة، كما أشارت المنظمة العالميّة "هيومن رايتس ووتش"، التي رصدت أيضًا أن شركة "ميتا"، حذفت ما يقارب 795 ألف منشور خلال الأيام الأولى للحرب، و"تيك توك" أغلق قرابة 8 آلاف بث مباشر وحذف قرابة 500 ألف مقطع فيديو.

الذكاء البشري الذي أوجَد الذكاء الاصطناعي، بمقدوره أيضًا أن يَجد طُرقًا للتحايل على الخوارزميّات. بما أن برامج الذكاء الاصطناعي في نهاية الأمر عبارة عن برمجيات محوسبة تعتمد على خوارزميات (هي بكلمات بسيطة عبارة عن مجموعة من الخطوات الرياضية والإحصائية والمنطقية للوصول إلى حلّ أو مُنتَج أو قرار) من تطوير البشر، فهي تعكس ثقافة مُطوّريها ومواقفهم، وليست في أيّ حال من الأحوال حياديّة أو عادلة، تمامًا مثل السياسات والحكومات والشّركات، وغالبيّة البشر.  نعم، يتم تغيير هذه الخوارزميّات وملاءمتها في كلّ شركة بناءً على توجّه القائمين عليها. فشركة "ميتا" مثلًا توجّه شبكاتها: "فيسبوك"، و"إنستغرام" و"واتساب" بالاتجاه نفسه، وشركة "ألفا- إنك" توجه "يوتيوب"، ومحرّك البحث "جوجل" وبرنامج الذكاء الاصطناعي (Gemini) أيضا للتوجُّه نفسه.

سرعان ما وَجَد الناشرون والناشطون وذوو الخبرة في البرمجة طُرقًا وبدائل للتحايل على الخوارزميات وإفلات نشراتهم من مَخالب الفَلتَرة. ومن هذه الطرق التي ابتكرت:

  • تبديل جزء من الأحرف بأحرف إنجليزية، أو أرقام، أو نقط أو حتى إضافة فراغات بين الحروف، فمثلًا، يكتبون: "فلس6ين" بدلًا من "فلسطين"، "مقاوmة" بدلًا من "مقاومة"، أو فلـ سـ طـ ين. فلا تعرف الخوارزميات أن هذه الكلمات من ضمن القائمة التي عليها حجبها أو إضعافها.

  • دَمج صور أو محتويات بعيدة عن موضوع غزة بغرض خَلْط الأمر على الخوارزميات فلا تستطيع تحديد موضوعها أو توجهها.

  • إضافة الكتابة على شكل صورة تم إنتاجها ببرامج خارجية وليس بكتابة مباشرة في الشبكة الاجتماعية، ما يُصعّب على الخوارزميّات تحديد المُحتوى المكتوب.

  • بدلًا من مشاركة فيديو مُتداول ومؤثّر، مِن المُتوقّع أن يُحجب في فترة قريبة، أصبح المُستخدمون يسجّلونه من خلال تسجيل شاشة، ويعيدون نشره كأنه فيديو جديد، وبهذا عندما يتم حجب الفيديو الأصلي، تبقى النّسخ منه في تحرك.

من المهم أن نذكر أن هنالك أيضًا فَلتَرة بشريّة أكثر دقّة لكنها أيضًا أكثر بطءًا، مما أوقع الشبكات الاجتماعية في مأزق بين أن تكون سبّاقة وسريعة وشفّافة، كما تُعلن، وأن تُحافظ على تحيّزها. في نهاية الأمر، الحرب على غزة كشفت للكثير من النّاس أنه لا حياديّة في التكنولوجيا، وأنها جزء مركزيّ من صراع القوى السياسة الاقتصادية والثقافية.

د. أسماء نادر غنايم

محاضرة وباحثة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومؤسسة ومديرة في مركز InnDigital - للتطوير التكنولوجي في المجتمع والتربية. [email protected]

 

 

رأيك يهمنا