طلع معنا حق - سقوط أقنعة مناهضي الانقلاب القضائيّ

لم ينج أي فلسطينيّ من رد الفعل الإسرائيليّ الهستيريّ إزاء ألأحداث الداميّة في السابع من تشرين أول الماضي في جنوبيّ البلاد. في غزة دمار شامل وآلاف الشهداء والمصابين ومئات المعتقلين ونزوح وتهجير وأوباء وكارثة إنسانيّة. وفي أراضي الضفة الغربيّة  المحتلة شهدنا مئات الشهداء والمصابين، وتصعيد باعتداءات المستوطنين على الفلسطينيّين واعتقالات جماعيّة إضافة إلى التضييقات الإقتصاديّة وحرمان مئات العمّال الفلسطينيّين من العمل. أمّا في الداخل الفلسطينيّ فالمشهد تميّز باستهداف كل ما بدا فلسطينيًا بالحيز العام والحيز الخاص. أي محاولة لتصوير الأحداث بأعين تتجاوز الإدانة المطلقة للجرائم التي نفذت بحق المدنيين الإسرائيليين، وُضعت أوتوماتيكيًا في خانة الشّبهات والتجريم ليتم بذلك شرعنة الملاحقات والمضايقات السياسيّة التي كُتب عنها الكثير ولا حاجة لتكرارها.  

ليست هذه المرّة الأولى التي نشهد فيها فترة طوارئ نابعة من عدوان عسكري على غزة وليست المرة الاولى التي يتم فيها استهداف الفلسطينيين في الداخل وملاحقتهم على إثر مواقفهم المعارضة عامّة لأي هجوم عسكريّ يدفع فيه الأبرياء العزّل من أطفال ونساء ورجال الثمن الأكبر. لكن ما يميّز الفترة الراهنة هو أن نوعيّة الملاحقات اختلفت. فمع التضييقات التي أقرّتها الشرطة ووزيرها على كل أنواع المظاهرات بالبلدات العربيّة المطالبة بإيقاف الحرب وتصديق المحكمة العليا على ذلك، لم نعد نرى بطبيعة الحال مظاهر الاعتقالات الجماعيّة والاعتداءات الوحشيّة للشرطة التي اعتدنا عليها، لأننا ببساطة لم نستطع التظاهر.[1]

مع انعدام مشاهد الاعتقالات الميدانيّة تم تحويل سياسة تجريم الرأي والاحتجاج إلى منصّات التواصل الإجتماعيّة وهي ظاهرة نبتت براعمها خلال أحداث هبة أيّار 2021 "وأزهر" شوكها في الفترة الراهنة. الّا أن مشهد الملاحقات اليوم لا يقتصرعلى مؤسسات إنفاذ القانون، كالشرطة والنيابة العامّة والمحاكم، بل شمل أيضًا القطاعات الخاصّة مثل المشغلّين في القطاع الخاص والمستشفيات ومؤسسات التعليم العالي ونقابة المحامين وغيرهم ممن انجروا وراء الأجواء التحريضيّة والإنتقاميّة وبدأوا باتخاذ سلسلة إجرائات تعسّفية كإقالات الأطبّاء والسّماح للإساءة لسمعتهم وإبعاد الطلاب الأكاديميّين عن مقاعد الدراسة والتحريض ضد محامين عرب وبدء إجراءات منعهم مزاولة المهنة وملاحقات للفنّانين وغيرهم.

صحيح أن أبرز ملامح ملاحقة الفلسطينيين بالداخل قد تبدو ظاهريًا متعلقة بقضايا حرّيّات التعبير عن الرأي حيث طالت الملاحقات تحديدًا أصحاب المنشورات عبر وسائل التواصل الإجتماعي بحجة منع دعم الإرهاب أو التعاطف معه، إلا أنه من السّذاجة أن نختزل الموضوع بقضية تقييدات على حريّة الرأي بمعزل عن النوايا المبيّتة لمحو الهويّة الجمعية للفلسطينيين بالداخل أو الممارسات العنصريّة ضدهم كونهم عربًا.

لقد كشفت أحداث السابع من تشرين الأول برأيي من بين ما كشفت، عدّة أمور أبرزها ثلاثة: الأول رفض الإسرائيليين البنيوي تقبّل فكرة وجود مواطنين لا زالت هويتهم الفلسطينيّة متجذّرة فيهم وهذا ما اتضح من الملاحقات لكل من تجرأ على إبراز أي من مقوّمات هويته الفلسطينيّة ورؤيته الخاصة للأوضاع التي نعيشها من وجهة نظر فلسطينيّة لا تتوافق مع التوجه الإسرائيلي السّائد. أما الأمر الثاني الذي ثبت لنا في الأشهر الأخيرة ومنذ اندلاع الحرب فهو زيف شعارات الحريّات والمساواة التي تغنّى فيها الشارع الإسرائيلي، خاصة الليبراليون منهم، قبيل الحرب والتي برزت خلال احتجاجاته المستمرة ضد مخططات الانقلاب القانونيّ. والأمر الثالث، والمتعلق بالأمر الثاني، فهو التأكد من صدق الموقف السياسيّ لفلسطينيّ الداخل الذي رفض الانضمام إلى معسكر الاحتجاجات ضد الانقلاب القضائي مؤكدًا أن لا شيء يقف من وراء الاحتجاجات سوا المحاولة لتكريس الوضع القائم الذي يسخّر مبادئ الديمقراطية لخدمة اليهود فقط.

للتذكير فمنذ شهر كانون الثاني 2023 تحديدًا وحتى شهر أيلول المنصرم رأينا خروج مئات آلاف الإسرائيلييّن إلى الشوارع محتجين على خطة الانقلاب القضائي الموجهة لإضعاف مكانة المحكمة العليا هاتفين شعارات تندد بالمساس بحقوق الإنسان وكأن المحكمة العليا شكّلت حتى تلك اللحظة المنارة المضيئة والبوصلة لحماية حقوق الأفراد والجماعات القومية والإثنية وأن خطة الإصلاحات المقترحة ستقوم بإطفاء شعلة الحريّات المتوهجة من المحكمة. وانتمى المحتجّون إلى شرائح مجتمعيّة شملت عناصر مركزيّة وتمثيليّة شملت أيضًا الجيش والمخابرات وحتى مؤسسات اقتصاديّة رفعت جميعها رايات حقوق الإنسان والأسس الديمقراطيّة للنّظام.

لا داعي لتقييم أداء الجيش أو المخابرات ومدى ايمانهم بمبادئ حقوق الإنسان وتكفي مشاهدة ويلات الحرب على غزة لتقييم مدى ايمانهم بمبادئ القانون الدولي أو حقوق الإنسان.  فالمثير هو التوقّف عند مؤسسات أخرى حملت راية حقوق الإنسان قبل الحرب ولم تتردد بإعلان معارضتها لخطة الانقلاب القضائيّ, أذكر منهم مثالين إثنين لتوضيح الصورة: نقابة المحامين وجامعة حيفا كنموذج للمؤسسات الأكاديميّة.

كانت نقابة المحامين والمؤسّسات الأكاديميّة من بين المعارضين المركزيين لخطّة الإنقلاب القضائيّ وسط ترديد عبارات مبدأ سيادة القانون وفصل السّلطات وحماية الأقليّات. إلا أن  أداءهم بعد أحداث السابع من تشرين الأول هو النقيض التام للشّعارات التي ردّدوها. فعميد جامعة حيفا على سبيل المثال ألقى الصيف الماضي خطابًا سياسيًا ناريًا خلال حفل تخريج طلاب كليّة الحقوق بالجامعة، التي أعمل بها، إلى حد إنتقده البعض، لحدة لهجته ضد خطة الانقلاب التي وصفها كمن تهدد مبدأ سيادة القانون والأسس الديمقراطيّة للنظام. ومع اندلاع الحرب رأينا عميد الطلاب أول من قام بإبعاد طلاب عرب وطرد أحداهم، من مساكن الطلبة بحجة منشورات تحريضيّة ضد الدولة، دون حتى مسائلتهم وسماع أقوالهم أو تحويلهم للهيئات التأديبيّة المسؤولة ببحث أصلًا مدى امكانيّة ابعاد طالب بسبب منشور على منصاته الخاصة لا يمت بأي صلة لتعليمه الأكاديميّ. علّل العميد سلوكه بالقول بأن فترة الطوارئ تحتّم تجميد مبدأ سيادة القانون والإجراءات العادلة! هذا التعليل هو نفس الركيزة التي يحاول المبادرون لخطة الانقلاب القضائي، الاستناد عليها لتبريرهم خططهم والتي مفادها أننا نريد نظامًا نفعل فيه ما نشاء ومتى نشاء وكيفما نشاء بذريعة الحاجة الأمنية وعدم الخشية من الرقابة القضائيّة. وما جعل عميد الطّلبة يخرج عن طوعه بخطاب ناري ضد محاولات المساس بمبدأ سيادة القانون لم يمنعه من القيام بنفس السلوك ضد الطلاب العرب حينما ضرب بمبدأ سيادة القانون والإجراءات العادلة عرض الحائط.

مثال آخر هو أداء نقابة المحامين في إسرائيل. فقبيل الحرب برزت النّقابة أيضًا بموقفها المعلن ضد مخطّطات الإنقلاب القضائيّ بدعوى منها للإلتزام بمبادئ سيادة القانون وحقوق  الإنسان. إلا أنها بعد أحداث 7 تشرين الأول كانت أول من رفع راية ملاحقة المحامين "المحرضيّن" على الدولة والمتماهين، بنظرها ووفقًا لتفسيرها منشوراتهم، مع أعمال إرهابيّة. وفيما كانت تغض النظر عن تحريض المحامين اليهود المقزز عبر شبكات التواصل وأدائهم غير اللائق بحق زملائهم العرب، رأت من المناسب أن تشارك بالتشهير وإساءة سمعة محامين عرب بحجة دعمهم للإرهاب قبل حتى أن تستمع إلى أقوالهم وتتبع التعليمات الملزمة لفحص أداء محام تم تقديم شكوى ضده للنقابة. وفي الوقت الذي كان شعار النقابة الدائم مساندة المحامين بأداء واجبهم المهنيّ لم نسمع منها أي موقف محتج إزاء التضييقات على عمل المحامين المترافعين عن المعتقلين والأسرى في السجون الإسرائيليّة.

التباين بين مواقف رافعي شعارات الاحتجاجات ضد الانقلاب القانونيّ وبين أدائهم الفعلي على أرض الواقع ما هو إلا تأكيد على ما كنا نقوله حينما رفضنا الإنضمام الى صفوف المحتجين على الرغم من اعترافنا العلني بأن مخطّطات الانقلاب القضائيّ ستمس أيضًا ولربما بالأساس الفلسطينيّين وبمكانتهم القانونيّة الهشّة أصلًا.

وكما قلنا بالسابق نعيدها مجددًا بأن انضمام نقابة المحامين والأكاديميّين وعناصر من الجيش والمخابرات للاحتجاجات الجماهيريّة ضد مخططات الانقلاب القضائيّ، لم يكن لحماية المحكمة العليا كجهاز مؤسساتيّ وجوده مصيريّ لحماية المستضعفين بل حماية للهويّة الإسرائيليّة التي بلورتها المحكمة العليا في قراراتها والتي يخشى الإسرائيليّون من تغييرها. وما يميّز هذه الهويّة الإسرائيليّة هو رؤية الجيش كمؤسسة أمنية قوميّة جامعة وضمان الفوقيّة اليهوديّة بموازاة ضمان الحقوق الفرديّة للنساء ولمثلييّ الجنس فقط. بكلمات أخرى، فإن المعركة الحقيقيّة في إسرائيل هي ليست قيميّة أو حقوقيّة بل صراع على ديمومة الهوية الإسرائيليّة كعلمانيّة وصهيونيّة تعمل على تحصيل حقوقها وحماية مؤسساتها وتعيش بسلام مع أي خطر وجودي يحدق بباقي الفئات المجتمعيّة نتيجة انعدام الحماية القانونيّة له.

وفي السياق الفلسطينيّ رددّنا أن الوضع الراهن القضائيّ هو الأسوء سواء على مستوى قضايا فلسطينيّ احتلال 1967 أم فلسطينيّ الداخل (1948) من مواطني الدولة. لذا لا يمكننا أن نطالب بعدم التدخل بالمحكمة العليا والحفاظ عليها بصورتها الحالية في الوقت الذي يرى الفلسطيني حاجة ماسة لإحداث انقلاب في توجهات المحكمة العليا تجاهه.  

يكفي أن نشير إلى قرارات المحكمة العليا التي أصدرتها منذ السابع من شهر تشرين أول الحالي بالالتماسات الحقوقيّة التي تقدمت بها مؤسسات حقوق الإنسان لنرى أن ما كان هو ما سيكون. رفضت المحكمة كل الالتماسات الحقوقيّة سواء تلك المتعلقة بالإساءة المتعمدة للأسرى الفلسطينيّين منذ اندلاع الحرب أم تلك المتعلقة بطلب معلومات عن أماكن احتجاز عمال ومعتقلين غزيّين وحتى تلك التي تطالب بإتاحة تنظيم تظاهرات ضد الحرب وقتل الأبرياء في البلدات العربيّة. رفض المحكمة العليا كل هذه الالتماسات الحقوقيّة لم يكن مدعاة لأي محتج ضد خطة الإصلاحات القضائية أن ينبس ببنت شفة. فهذه هي المحكمة التي يريدون الحفاظ عليها ولا عجب بالتماهي مع قراراتها طالما أنها تكرّس الوضع القائم. ان نهج الأكاديمية الإسرائيليّة ونقابة المحامين والمحكمة في الأوقات العصيبة التي نعيشها وأخذهم قسطًا وافرًا في الملاحقة السياسيّة لفلسطينييّ الداخل لهو البرهان الأكبر للفلسطينيين أن موقفهم بعدم الإنضمام إلى الاحتجاجات كان صائبًا لأن ما كان هو ما ظل وما سيكون، مع وبدون الاحتجاجات.


[1] كانت هنالك ثلاثة محاولات للتظاهر في حيفا والناصرة وأم الفحم. في حيفا تم تفريق المظاهرة واعتقال متظاهرين تم اخلاء سبيلهم غداة الاعتقال بالمحكمة، وفي الناصرة تم اعتقال القيادة العربيّة قبل وصولها منطقة التظاهرة واطلاق سراحها فيما بعد، وفي أم الفحم دفع فيها المتظاهرون الثمن الأكبر حيث ما زال اثنان منهم، المحامي والزميل العزيز أحمد خليفة والناشط محمد طاهر، يقبعان بالسجن بظروف قاسية وتعنت المحكمة على عدم إطلاق سراحهم حتى لحظة كتابة هذه السطور ومنذ قرابة الشهرين.

* الصورة من موقع مؤسسة "شتيل".

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م