حرب الإبادة في غزة: الذاكرة الفلسطينية "تَسْتَرِدّ" صورة النكبة الأولى

في كِتاب "الاستبداد المُفرِح- حوارات مع حاتم علي"، يوّجه المُحاوِر فجر يعقوب السؤال التالي لِعَلي حول مسلسل "التغريبة الفلسطينية": "هل تعتقد أنّ المطالبة بإعادة عرض هذا المسلسل (دائمًا) ينطوي على بَحث جمالي في تقاسم الذكريات؟".

يجيب عَليّ: "ممكن جدًا. هناك أناس يعيشون على ترديد سيرةٍ واحدة طوال حياتهم. وهم يعيشون مِن تردادها أيضًا على مسامع الآخرين. الاستعادة أحيانًا لا يكون مقصودًا فيها الطرف الثاني الذي يُصار التحدّث إليه، بقدر الخوف من نسيان الحكاية نفسها. وهكذا تتكرر المحاولة لئلا تضيع هذه الحكاية. حتى العدو كان يُراهن دومًا على الذاكرة والنسيان. لا يُمكن أن تجد كلّ هؤلاء المُعمّرين من دون رغباتهم بتقاسم الذكريات "حدّ الفجاجة" أحيانًا. استعادة الحكاية بالنسبة إليهم تبدو وكأنّها ردّ فِعل غريزي ضدّ النسيان".

يؤكّد علي في إجابته السابقة بأنّ الحاجة إلى استعادة حكاية النكبة هي ضرورةٌ فلسطينية دائمة، للأجيال كافة، القديمة والجديدة، لأنّ هذه الاستعادة تعيد إيقاظ ملامح الحكاية وتفاصيلها في الذاكرة الفلسطينية مرارًا وتكرارًا، وتأتي كأنّها ردّ فِعل غريزي يقف في الضدّ من محاولات الاحتلال المستمرّة محوَها أو إلغاءها، وينفي ما قاله بن غوريون يومًا من أنّ "الكبار يموتون، والصغار ينسون".

لعلّ إجابة علي السابقة تُحيل إلى سؤالٍ مشروع حول أحوال استعادة حكاية النكبة في الذاكرة الفلسطينية، وما هي التحوّلات التي أحدَثَتها حرب الإبادة الدائرة منذ عام في غزة على شكل هذه الاستعادة وتفاصيلها؟

يُمكن القول إنّه ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو، دأبت المنظومة السياسية الفلسطينية الرسمية، على محاولة تكريس شكلٍ معيّنٍ من استعادة النكبة في الذاكرة الفلسطينية، وذلك بما يخدم تصوّراتها حول الاحتلال وعلاقتها معه، فطوال العقود الثلاثة السابقة، حاولت تلكَ المنظومة إحالة شكل الاستعادة إلى مجرّد استعادة طقوسية لمظاهر وعادات فلوكلورية معينة مثل: أنواع المأكولات والرقصات الشعبية والأمثال الشعبية.

لعقود طويلة، ظلّت تلكَ الاستعادة الطقوسية المجتزأة للنكبة هي السائدة، وكان يتّم تقديم حكاية النكبة كما لو أنّها حكاية مظاهر تراثية مسروقة وعادات فلوكلورية مُستلبة، ما أدى إلى تغييب النكبة في صورتها الكلية باعتبارها حَمَلت إلى فلسطين مشروعًا استعماريًا صهيونيًا له طابع إحلالي.

تجيء حرب الإبادة الدائرة منذ عام في غزة -ذهب ضحيتها أكثر من أربعين ألف فلسطيني- اليوم بما يصوّب شكل استعادة النكبة في الذاكرة الفلسطينية، وكأنّها تُعيد إلى ذاكرة الفلسطينيين حقيقة الوجه الإبادوي للمشروع الاستعماري الصهيوني الإحلالي، بما هو مشروعٌ هدفه محو الفلسطينيين وإزالتهم واستبدالهم.

إنّ ملاحظة حجم الدمار والتخريب الهائل الذي لحق بمدن غزة ومرافقها وبنيتها التحتية يأتي –كذلك- ليقوّم تلكَ الفكرة القائمة على استعادة النكبة باعتبارها حدثًا اقتصر على تدمير القرية الفلسطينية بما فيها من مظاهر تراثية فقط، فمشاهد ذلك الدمار تأتي لتعيد إلى الذاكرة الفلسطينية صورة المدينة الفلسطينية الغائبة، التي عمل المشروع الصهيوني الإحلالي على تدميرها، وقد كانت تتجّه بخطوات واثقة نحو الحداثة.

يؤكّد المفكّر عزمي بشارة في كتابه "طروحات عن النهضة المُعاقة" على أنّ نكبة عام 1948 قد قطعت الطريق أمام تطوّر المدينة الفلسطينية، فتاريخ فلسطين قبل النكبة هو تاريخ المدينة التي كانت تنمو وتزدهر كجزء من مشروع عربي متواصل، وبحسب بشارة، فإنّ الاحتلال سَلَبَ الفلسطينيين المدينةَ الواقعية، والممكنات الكامنة فيها، وإنّ فهم الانقطاع الذي حصل في مجرى التطوّر الفلسطيني في المراحل اللاحقة على النكبة، هو فهم لا يُمكن أن يَحدُث إلا بإعادة الاعتبار للمدينة الفلسطينية الغائبة التي دمرتها النكبة، ودمرت إمكانيات قيامها وتطورها.

تأتي مشاهد حرب الإبادة الدائرة منذ عام في غزة كفأس تَضربُ ذاكرة الأجيال الفلسطينية فتُصوّبها وتُقَوّم استعادتها لصورة نكبة بلادها، لتكون صورتها المُستعادة كأنّها صيرورة ممتدة تُعيد نفسها مرارًا دون انقطاع!


الصورة: من أرشيف "المكتبة الوطنية" في القدس.

إسراء عرفات

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة

رأيك يهمنا