شَهادَة عن حَرب تَترك نُدوبَها على كلّ شيء

"بنان" تنجو بأعجوبة، حيث لا أَحدَ يَنجو تمامًا!

نامت "بنان" ليلًا على وعدٍ جميلٍ، لكنها استفاقت في الليلة نفسها، قبل الفجر، غارقةً في كابوس، عالقةً تحت الردم، تتنفس الغبار والأتربة، لا أثرَ لناجين حَوْلَها، وصوتُ صراخها لا يَصل. كانت بنان في زيارة لإخوتها فَعَلِقت عندهم بعيدًا عن باقي أسرتها، وَعَدوها بعد أن غلَبَها الشوق بتدبّر أمر عودتها في الصباح رغم خطورة الوضع، لكن الصباح استعصى على الطُلوع، وكان لصواريخ الحرب الوحشية رأيٌ آخر.

تقول بنان: "انقَصفت العمارة؛ قَصفونا بصاروخين على الأقل، العمارة عِبارة عن أربع شقق من ضمنها شقة أخويا محمد،[1]والشقق الثلاث الأخرى كانت مأهولة بالسكان، شقة أخويا محمد لَحالها فيها سبعة عشر فردًا. كُنت وَقْتها كَأني في غيبوبة أو كابوس، لم أسمع أيّ صوت لطائرة تقصف أو صوت الصاروخ أو أي شيء، كأنني أصبحت في منطقة أو عالم ضبابي، وكل حواسي كأن الردم والغبار والأتربة طَمَراها بالكامل، عيوني مُغمضة يملؤها الغبار والتراب، أحسست كأني كنت بين عالَمين؛ الحياة والموت، وكان الموت أقرب، نَجوت بأعجوبة، حين استعدت وعيي أخذت أصرخ على إخوتي: محمد.. رامي، لم يَسمعني أحد، ولم أتلقَ أي جواب أو صوت يرد على صراخي".

يحكي هذا المشهد ذَروة مأساة "بنان"، وبنان نموذج لمجتمع كامل تم تفكيكه، ومَحو ماضيه وحاضره، وسَحْق نمط حياته وشبكة علاقاته الاجتماعية والإنسانية.. ها هي بنان تَحكي، بِصوت مُرتجف، حكاية مأساتها من أولّها.

تقول: أنا بنان معمر، خريجة بكالوريوس شريعة إسلامية وتأهيل تربوي، كنت قبل الحرب أُدرِّس دروسَ تقوية بالبيت لمادة اللغة الإنكليزية والرياضيات، أنا مِن سكان منطقة رفح؛ تحديدًا منطقة صوفا، مِثلنا مِثل كل الناس كنا عايشين عيشة هنيّة كُلنا مع بعض، نجتمع في بيت العائلة مبسوطين بلمّتنا وبحياتنا، قبل الحرب بأربعين يوم فقدت أمي نتيجة مرض عضال ولم نتجاوز موتها ولم نستطع تصديق موتها، أيضًا فَقَدنا أخًا لي توفي بنفس المرض قبل 20 سنة، الفقد صعب جدًا، [تتنهد بنان، وتتابع]: استشهد لي أخ بمسيرات العودة وكان أول شهيد بالمسيرات، جاءت الحرب لتُكمل علينا وتَسرق مِنّي إخوتي، لم أتخيل أن يحدث ما حدث، أشعُر أن حياتي كلّها تدمّرت، واختفت كل أحلامي وطموحاتي دفعة واحدة، أغلب عائلتي استشهدوا، وغابوا كما البقية في الذاكرة الخَصبة، لم أعُد أثق بالقادم، كلّ شيء أخذ مساره البعيد عن الحياة، الموت يحيط بنا من كلّ اتجاه، حياتنا كانت غيْر حين تجتمع العائلة كلّها ضَحك وانبساط، الآن العائلة تمزّقت، والركام غطى كلّ حياتنا وأحبابنا، والخيمة لا تَستُر ولا تَرحم ضعفنا".

بنان معمّر

تقول بنان بكلمات تخرج بصعوبة تَقطعها تنهيدات كثيرة:

"ما حدث معي بالضبط: قبل الحرب بيومين فقط ذهبت في زيارة لبيت أخي محمد "أبو كرم" الكائن برفح بجوار المستشفى الكويتي، كان ساكِن بعمارة زعرب، فحَدَثت الحرب وأنا هناك ولم أتمكن من الرجوع لبيت أهلي، كانت المنطقة حدودية، وبسبب الأوضاع القائمة، بقيت عند أخي، في هذا الوقت تَعبت نفسيًا كوني بْعَدِت عن باقي أهلي. وبعد أسبوع من الحرب، جاء أخي الدكتور رامي وزوجته وأبناؤه نازحين مِن منطقة عبسان الجديدة، بعد أن أمرهم العدو الإسرائيلي بإخلاء المناطق الشرقية فورًا، وبنفس اليوم أيضًا جاء نسيب محمد وأولاده وبناته نازحين طبعًا وجميعهم جاءوا لمحمد أخي في شقته، كان الوضع يزداد سوءًا، مع إخلاء مناطق كثيرة ونزوح عائلات ومناطق كاملة إلى المجهول، أحسست بأن الأمر أكبر من مُجرد أيام أو أشهر، ورغم ذلك بقيت على أمل العودة لبيتي وعائلتي، لكن في داخلي لم أكن مرتاحة خصوصًا أن باقي عائلتي في جهة أخرى، ولا أعلم مع كثرة القصف والنزوح، هل نلتقي أم لا؟ لكن لم يخطر ببالي أبدًا أن الأمور ستزداد تعقيدًا أو أن أفقد أحدًا من عائلتي، رَغم كلّ المخاوف كان بداخلي أمل رغم العتمة والخوف والقلق الذي لازمني طيلة الوقت".

تصف بنان حالَ عَيشها في شقّة أخيها في ظل الحرب والنزوح قائلة: "شقة أخي محمد عبارة عن ثلاث غرف، غرفة جَلَست فيها شيماء زوجة محمد وأولادها: كرم (ثمانية أعوام) ومرح (ثلاثة أعوام) وأخواتها آلاء وروان ولينا. الغرفة الثانية جَلَست فيها أنا وزوجة أخي الدكتور رامي وأبناؤه: بتول (أربعة عشر عاما) ومحمد (أحد عشر عاما) ومحمود (ثمانية أعوام) وديالا (ثلاثة أعوام). كان الأطفال في حالة ارتباك وقلق، مما يحدث، وفي الوقت ذاته لم يَبك أي منهم، الجميع في حالة ترقُّب لما يحدث من نزوح، وابتعادنا جميعًا عن بيوتنا وأقاربنا وجيراننا؛ حدثٌ غريب أن تنزح قسريًا عن بيتك، وهو مكانك الآمن، كل شيء هناك مِن متعلّقاتك وروتينكَ اليومي، تَتركه وتنزح فارغَ اليدين، مُعلّقًا من رَقَبتك، لا تعلم أي شيء، ولا متى سينتهي كل هذا الموت المجاني، ولا متى ستعود حياتك لطبيعتها، وتعود لمكانك الذي تَلمّست فيه الأمان والهدوء والسكينة، هكذا مرّة واحدة بتَّ مُشردًا، ومُتجردًا رغمًا عنك من كل شيء، حتى أبسط حقوقك كإنسان".

تتنهد بيان بصوت مبحوح وتتابع:

"غرفة المضافة [الغرفة الثالثة] جلس فيها أخي محمد، وأخي الدكتور رامي ونسيب أخي محمد الدكتور أحمد برهوم وأولاده إبراهيم ويحيى، توزعنا في غرف الشقة آملين أن ينتهي الكابوس على خير دون فقد أو حزن، وفي نفسِ الوقت مشاعر الاشتياق لأبي وإخواتي [الآخرين] تزداد، وشعورٌ بالنقص دونَهم يكبُر كلّ لحظة، مع إحساس رهيب بالرغبة للعودة والخروج من شقة أخي، كان يتملّكُني شعور بالضيق والاختناق لا أعرف سببه، ورغم محاولات إخوتي جَعلي سعيدة، إلا أن الإحساس بالضيق يزداد، ولا أُعلّل الأمر سوى بالاشتياق لباقي عائلتي حيث تفرقنا عن بعضنا".

بصوت خافتٍ كأنها تتذكر كلّ كلمة، وتَسْتَجمع كلّ مشاعرها مرة واحدة، تقول: "طلبت من إخوتي (محمد ورامي) أن أعود لبيت أهلي، بَقيت أَتْرجّى فيهم ياخذوني هناك، فقالوا لي: إن الوضع صعب جدًا، فوعدوني وقالوا: "خلص بُكرا بناخذك".

يومها كُنت كثير متضايقة ومِتنَكدة لدرجة إني نِمت بدون غداء ولا عشاء، وكُلْهم أجوني عند راسي يْضَحْكوا فيَ ويطَمنوني، وقَعدوا يحكولي: تزعليش وتناميش زعلانة الدنيا مِشْ مستأهلة. فعلًا يومها حسّيت بإشي غريب؛ يَعني لأول مرّة أحسّ بتصرفاتهم هادي (الله يرحمهم)، حتى كَرَم الطفل الذي لم يُكمل الثامنة من عمره، أذكُر يومها وِقف على الشباك وصار يِنشد: "شهيد ورا شهيد الموكب عم بيزيد"، لم أَعلَم حينها بأنه سيلتحق بموكب الشهداء هو وأبوه وأمه وعمه والعائلات في الشقق الأخرى".

وتصف بنان جُزئيّة القَصف "القيامي" في تلك الليلة: "طبعًا القَصف حدث ونحن نائمين، كان كأنه زلزال، كلّ شيء يتساقط وينهار، أكوام الحجارة والرمال وكلّ ما في المبنى ينهار فوقنا، كأنّها القيامة يا الله! شيء مُرعب لا يتخيله عقل، لا أرى [بسبب] الغبار والردم أي شيء، ولا أشعر سوى بجسدي عالقْ في التراب والردم، وصرخاتي مبتورة، كلّها مبتورة، كل محاولاتي لسحب جسدي من الردم كانت عقيمة".

تعيد بنان مرةّ أخرى وصف ما حدث، مُستذكِرة مزيدًا من التفاصيل عن واقِعَة الإصابة وظروف العلاج: "فلما قصفوا الدار كنّا طبعًا نايمين، أنا عن نفسي ما سمعت للقصف صوت أبدًا، صحيت على الركام فوقي تْقول زلزال، أيقنت حينها أنّه قصف صهيوني، فصِرت أصرخ وأنادي على إخوتي: محمد.. رامي.. إكرام.. شيماء؛ يعني أنادي على إخوتي وزوجاتهم فما كنش حدّ يرد عليّ ولا حدّ سمعني، مَسمعتش صوت حدا منهم، فجأة وأنا بنادي ردّ عليّ أولاد أخويا رامي (محمد ومحمود)، هم كانوا خايفين طبعًا، فَلمّا سمعوني صاروا ينادوا عليّ: عمتو بنان عمتو بنان. هم كانوا معايا بنفس الغرفة بَسّ مِنْ شدة القصف طاروا بعيد شوي، فصرت أطَلِّع لهم إيدي على أساس يشوفوني لأنه الدنيا كانت ليل وعتمة، فِشّ كهربا، فَطَلّعت إيديا، طبعًا أنا كُلّي تحت الركام، فشويه شويه صرت أطِّلع إيديا، وباقي جسمي ظلّ عالق تحت الركام، محمد ومحمود حدّدوا مكاني على الصوت وأجوني، وطلّعت لهم إيديا وحضنتهم، كانوا خايفين كثير وبيعَيطوا، كانت رِجلي كثير بتوجعني مَكُنتش حاسة فيها بتاتًا، كلّ جسمي كان بوجعني، كنت أصرخ وأنادي وأقول: الحقوني رِجلي راحَت مِني، هَينا هان، تعالوا أنقدونا، على أساس حدّ من الجيران يسمع الصوت وييجي يِنقدنا ويِسعفنا، بَعد ثلث ساعة تقريبًا هرع الجيران للمكان وقعدوا ينقذوا فينا، أنا طلّعوني وحطّوني على حافة العمارة بالشارع ورِجعوا ينقذوا باقي الحالات و[يْطلعوا] الجثث، فأنا وأنا جَنب العمارة لَمحت يَعني زَيّ جثة أخويا محمد؛ شَبَّهت على ملامحه، كان المسعف بيقلّب بالجثة فكانت كلّها دم، مِشْ مبينة ملامح خالص، بَسّ شبّهت عليه مِنْ راسه، فصرت أصرَخ وأقول: محمد محمد هذا محمد، مَكَنش حدا يردّ عليّ، شْوي إلا جايه سيارات الإسعاف، ونقلوا الحالات وأسعفونا، حينها أنا فقدت الوعي وصار معي نزيف مدرتش عن أي حاجة، بعد ما ضَليت مغمى علي حوالي 8 ساعات وكنت بَنزِف وْعيت على حالي وأنا في المستشفى الكويتي، قَعدوا  يسألوني في الطوارئ إيش اسمك وأكم عمرك وهيك، بعدها أغمي عليّ ثاني ومَصحيتش على حالي غير وأنا بالمستشفى الأوروبي الساعة وحدة الظهر، يعني بعد ما نقلوني من مستشفى الكويتي للأوروبي برده [أيضًا] كان مغمى عليّ وبَعرفش وين وَدّوني أساسًا، ونَزَفت كثير، وْعيت بعد الساعة 12 الظهر تقريبًا وكانوا إخواتي حولي وظلّيت أَنزِف.

كانت بداية الحرب، وكان نوعا ما في عِلاج ودكاترة، بسْ كثير كان في دخول للعمليات فَ مَدَخلتِش غير الساعة العاشرة مساء، ظليت طول اليوم أَنزِف، وتعبانة، لما دخلت أول عملية حَطّولي يومها عشر وحدات دم، سُلالة دمي نادرة فعملوا مناشدة إنه يوفرولي دم والحمد لله عمِلت أول عملية، كانت صعبة، فظليت فيها 6 ساعات، بعد ما طلعت من غرفة العمليات وفِقِتْ، هْديتْ شوية، قَعدت أسأل عن إخوتي إيش صار فيهم: مين تصاوب؟ مين استشهد؟ فخبّوا عليّ كون حالتي كانت صعبة وخطيرة وطالعة من عملية، حكولي إنهم متصاوبين وكُلهم إصابات خفيفة و[حالتهم] أحسن منِّك. سألتهم: طَبْ وين همِّ؟ في نفس المستشفى وإلّا وين؟ طَبْ بدي أسمع صوتهم أطمئن عليهم. حكولي إنه الدكاترة حكولهم إنهم ما يحكوش، مِشْ كويّس إنهم يحكوا عشان وضعهم الصحي. طَبْ وين همِّ، بأيّ مستشفى؟ حكولي إنهم بمستشفى أبو يوسف النجار، وظلوا فترة مْخَبيين عليّ إنهم مستشهدين، بعد عشرين يوم بالصدفة بَعْرف إنهم استشهدوا، حينها حسّيت إنه قلبي توقّف، يعني انصدمت كثير، مَتوقّعتش إنهم يكونوا كُلهم مستشهدين.

طبعًا استشهدوا ستة [من اللي كانوا] معايا: إخواني التنين محمد (37 سنة) وزوجته شيماء (29 سنة) وابنهم كرم (8 سنوات)، ظلّت بنتهم مرح (3 سنوات). واستشهد أيضًا أخي رامي عمره (41 سنة) وزوجته إكرام (36 سنة) وبنته ديالا (3 سنوات)، وظل له بنت وولدين: بتول (14 سنة) ومحمد (11 سنة) ومحمود (8 أعوام). عَدَّت الأيام وأنا في المستشفى بْقيت خمسة شهور في المستشفى الأوروبي وبَدخل غُرف العمليات، رَكّبولي بلاتين خارجي من على طول رِجلي كُلّها بالإضافة لرقعة جلديّة عندي".

وتابعت: "أنا إصابتي في رِجلي اليسار، عِندي ثلاثة كسور، ورُقع جلديّة، دَخَلت كذا عملية والغيارات كانت بغرفة العمليات، بعد البلاتين الخارجي ركّبولي جبيرة، فَكّيت البلاتين الخارجي في المستشفى الكويتي ورَكّبت الجبيرة هناك وبعد 15 يوم لَقوا الكسور والجروح مِش ملتئمة فحولوني على [مستشفى] ناصر، في 20/3 دخَلت مصر، وبعد أسبوع عْمِلت العملية هان بمصر، رفَعولي الجبيرة وركّبولي مسامير وشريحة، ظليت بمستشفى الشيخ زايد التخصصي مدة شهر ونُصّ بعدها كَتَبولي خروج طْلِعت من المستشفى، وحاليًا بتابع بمركز للعلاج الطبيعي. صَحْ إنّي طلِعت من المستشفى وقاعدة هان بشقة، ولكن مِش مرتاحة نفسيًا، أبدًا كُونْ أهلي نازحين في مواصي خان يونس وبخيمة؛ 18 نَفَر قاعدين بْخيمة، يَعني أبويا وإخواني التنين إللي ضايلين متزوجين مع أولادهم وزوجاتهم وأولاد إخوتي الشهداء في خيمة وحدة، وطبيعة الجَو والشوب والحشرات، وإنه فِشّ أكل، فِشّ كهربا، فِشّ مَيّة، يعني أنا رغم إصابتي ووضعي خايفة على أهلي في هذه الظروف أكثَر ما أنا خايفة على حالي، أبدًا مكنتش متخيلة إنه تِمتد فترة الحرب، يَعني قرّبت على سنة، كُنّا نقول: شهر شهرين ثلاثة أربعة بالكثير، بَسّ إنّه تِمتد هَلْفَترة مكُنّاش مِتْوقعين أبدًا.

تَختم بنان شَهادتها بِخلاصة مُختصرة ومُفيدة: أوجاعنا كثيرة وآلامنا كثيرة، لكن الحمد لله على كلّ حال، صحيح الواحد نَجا من الحرب، لكنه لم ينج من أشياء كثيرة، لا نفسيًا ولا عقليًا ولا جسديًا.  


[1] تخلط الشاهدة بنان في شهادتها هذه بين العامية والفصحى المُبَسَّطة، أخترنا إبقاء لغتها كما هي قدر الإمكان حفاظًا على عفَويّة الشهادة وحيويّتها، مُكتفين بتصحيحها مطبعيًا وتخليصها من الاستطراد والتكرار.

الصورة المرفقة: صور شهداء عائلة بنان معمّر.

نجوى شمعون

كاتبة وشاعرة فلسطينية من قطاع غزة.

رأيك يهمنا