مِن مَعرَكة سولفرينو إلى مَعركَة غَزة - تَحدّيات القانون الدَولي الإِنساني (الحَربي)
تُعتبر مَعركةُ سولفرينو الداميّة بين فرنسا والنمسا سنة 1859 نقطة التحوّل في تاريخ القانون الدولي الإنساني في ما يَخصّ النزاعات المسلّحة، وذلك لوحشيّتها وبَشاعة نتائجها (آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى تُركوا لمصيرهم على أرض المعركة) مما أدى في النهاية إلى تأسيس منظمة الصليب الأحمر سنة 1863، وبَلورة اتفاقيات دوليّة تُحدِّد كيفيّة إدارة الحروب وتُقرّ ما هو مسموح وما هو ممنوع على أرض المعركة وأهمها اتفاقيات جنيف الأربع سنة 1949. يدّعي هذا المقال أن معركة غزة هي محطّة فاصلة في القانون الدولي الحديث، تتقزّم بجانبها وَحشية معركة سولفرينو وتُحتم إعادة النظر في الاتفاقيات الدولية المُنَظِّمة للحروب وإعادة النظر في آلية تطبيق هذه الاتفاقيات.
مَرّت سنة على حرب الإبادة على غزة دَوّت فيها أصواتُ القَنابل المدمّرة وَخَفَتَ فيها صوت القانون الدولي. أعادت إسرائيل القانونَ الدولي الحربي إلى العصر الحجري، ليس فقط بمعنى أنّ القوي يأكُل الضعيف، وإنما القَوي يَفعل ما يشاء بالضعيف مِن غير حساب. كنتُ قد ادّعيت في مُداخَلة سابقة على هذه المنصة ("الحرب على غزة وسقوط خِطاب المواطنة"، 1 تموز 2024) أن إسرائيل هي دولة مارِقة (Rogue State)، كونها دولة متمرّدة على سلطة القانون الدولية، وتهدد الأمن والسلام في الشرق الأوسط، ويُمكن أن نضيف هنا أنها تهدد الأمن والسلام العالميين.
نَحن في حقبة مِن التاريخ تتصاعد فيها القُوى اليمينيّة في العديد من دول العالم "المُتحضّرة" وأيضًا النامِية. يعتمدُ خطاب هذه القوى القُوّةَ والعنصرية وحبَّ الهيمنة والسيطرة كما هو الحال في إسرائيل. ليست الحالة الإسرائيلية فقط تفعَل -كدولةٍ مارقة- ما تشاء دون حساب، وإنما تلقى دَعمًا من الدول "المُتحضّرة" والمهيمنة عالميًا، وتُمهّد وتُشّرع استعمال القوة المفرطة في النزاعات الدولية، حيث يَصُعب على المنظمات الدوليّة الحديثة- الأمم المتحدة ومؤسساتها بما يشمل محكمة العدل الدولية- مَنْعها أو حتى السيطرة عليها. يُحتّم فَشل هذه المنظومة الدولية في الحالةِ الإسرائيلية فَشَلها في حالات أخرى لأسباب عديدة، أهمّها فقدان المصداقية.
يحتاجُ العالم ما بعد حرب الإبادة على غزة إلى منظومة عالمية جديدة. حتى يَحدث ذلك، وإن طبّقنا مبدأ المعاملة بالمِثْل (reciprocity)، فإن استهداف المدنيّين مُتاح، تَفجير الأحياء السكنيّة مُتاح، تدمير المستشفيات مُتاح، تدمير الجامعات مُتاح، تدمير المدارس مُتاح، تهجير السكّان مُتاح، التجويع مُتاح، تعذيب الأسرى مُتاح، والإبادة الجماعيّة متاحة. لو تخيّلنا أن موازين القوى تغيّرت، هل يُمكن إعطاء شرعيّة لاستهداف تل أبيب لوجود القيادة العسكرية في مركزها، أو استهداف مستشفى ايخيلوف المحاذي لها لمعالجته جنودًا إسرائيليين، أو تفجير جامعة تل أبيب لوجود طلابٍ منخرطين في الجيش، أو تعذيب أسرى حرب، أو ارتكاب إبادة جماعية لكلّ من هو إسرائيليّ لأنه يؤيد حكومة احتلال؟ بالطبع الجواب هو بالنفي، لكن مَن سيُنفّذ القانون الدولي وقد وَأَدْنا مصداقيّته في رِمال غزة.
هَل وَصلنا إلى مَرحلة اللّا عودة في القانون الدولي؟ كلّا، لكنّنا قريبون منها، فما زال باستطاعة المنظومة الدولية أَخذَ دورٍ فعّال ضد الدولة المارقة، بدءًا بملاحقة ومحاكمة مُرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية من خلال محكمة الجنايات الدولية، مرورًا بإدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ومُعاقبتها مِن خِلال مَحكمة العدل الدولية، مرورًا بملاحقة الجناة من خلال العدالة العالميّة في عشرات مِن دول العالم، ونهاية بتفعيل الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة ضِد إسرائيل لردعها ولَجمها ومعاقبتها. طبعًا، الحالة السياسيّة السائدة وهيمنة الولايات المتحدة على الأمم المتحدة ستَحول دون ذلك، لكنّ البديل هو حُكم الغاب أو نظام عالمي جديد، اتفاقيات دولية جديدة، ومنظومة قضائية جديدة.
حربُ الإبادة على غزة هي مَحطة فاصِلة، ما بَعدها ليس كَما قَبلها على مستوى محلي وإقليمي وأيضًا دَولي. تعيش المنظومة الدّولية فترة ضعف وتراجع كما كان الحال إبان السنوات الأخيرة للمنظومة الدولية السابقة؛ عصبة الأمم، عشية الحرب العالمية الثانية، مما أدى بالتالي إلى وأد عصبة الأمم ونشأة الأمم المتحدة. فلنتذكر أنّ فشل عصبة الأمم في جَمح غطرسة دولة مارقة آنذاك وفقدانها المصداقيّة أدّيا إلى حرب عالمية ثانية، ونأمل أنّ فشل الأمم المتحدة ومؤسساتها في جَمح غطرسة إسرائيل ومنع الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في غزة وتدميرها كليًّا دون محاسبة الجناة وهم كُثر، وبالتالي فُقدانُها المصداقيةَ، ألا يؤدّي إلى حرب دموية، إقليمية أو عالمية، لا تحتكم إلى القانون الدولي الإنساني، كما كان الحال في معركة سولفرينو، وكما هو الحال في معركة غزة.
د. ضرغام سيف
محاضر وباحث في القانون الدولي