مشهد الرحيل: مَنْ يُطفئ الكاميرا؟

 كانت السيارة مسرعة، والطريق طويلٌ موحش، وكان الهواء الشديد يلفح صفحة وجهي بقوة حسبتها صفعات، أو ربما اعتبرتها كذلك ذريعةً لبكائي الذي استمر طوال الطريق، فقد تركت روحي هناك وغادرت، محمّلة بذكريات العمر ووجع السنين، تركتُ بيتي الذي هُدم وعُمري الذي سُرق وحياتي كلّها (وعائلتي) ورحلت رحلت، أمامي مصير مجهول تمامًا، بلا هدف ولا خطة ولا أي شيء، كل ما كنت أفكر به هو الهرب من الموت، نجوتُ أنا وزوجي وطفلي الصغير أخيرًا، أو ظننت أنني نجوت، شعرتُ بغصة خانقة وواصلت البكاء، كنتُ أبكي الوطن، والفراق والغربة والوحدة، لم أستطع وضع حدٍ لأي سيناريو يمر في خيالي، سرحتُ كثيرًا ولم أرغب في الحديث. لمحتُ زوجي يصوّر بهاتفه المحمول، يصوّر الشارع المؤدي بنا لبوابة المعبر، والطريق الذي ملأته خيام النازحين، والشمس التي تُلقي بأشعتها على صفحة البحر اللامع، كان يصوّر المشهد الأخير على ما يبدو، مشهد الرحيل.

بين خيارين أحلاهما مُرّ وجدتُ نفسي، إعصار من الأفكار، وصراع داخلي لا يهدأ، أأنجو أم أبقى؟ جملة واحدة من طفلي البالغ ٧ سنوات حسمت الموقف: "بديش هاي الحياة، يرجعونا ع غزة أو يموتونا"، واتُخذ القرار الصعب، القرار الذي حملتُ معه ذلك الشعور بالذنب لنجاتي وعائلتي الصغيرة أنا وابني وزوجتي فقط، دون عائلتي ودون عائلتها، التقطتُ هاتفي لأفتح الكاميرا التي اعتدت أن أوثق بها الجانب المشرق من الحياة، ولحظات السعادة الغامرة، لكن هذه المرة كانت مختلفة، فتحتُ الكاميرا لأوثق المآسي التي قلبت حياتنا رأسًا على عقب، كنت أوثق الرحيل الموجع، وظللتُ أتساءل: أيوثِّق الإنسان أوجاعه؟ نعم نحن نوثق أوجاعنا، لا أعرف لمَ، ربما ليرى العالم ما نعانيه، أو لأنه يعز علينا أن نرى عُمرنا يُهدم، لكننا نوثق. تلك الكاميرا التي لطالما التقطنا بها أحلى اللحظات، باتت اليوم توثق مآسينا وظروفنا الحالكة، دائمًا كنا نصوّر لنحتفظ بالذكرى الجميلة التي ترسم على محيانا تلك الابتسامة ما إن عُدنا للصور، لكن هذه المرة كانت مختلفة، الصور المُلتقطة توجع الروح وتُدمي القلب.

 ظل شعور الذنب ينهش روحي حتى بعد وصولنا، لِمَ كُتب أن أرحل وحدي وأنجو وحدي وأحبتي وعائلتي هناك تحت النار، أهي خيانة لهم أن أرحل وأتركهم؟! وأنا أعرف حق المعرفة أن كل من هم في غزة هناك بينهم وبين الموت شعرة، وهذا ما ظل ومازال يؤرقني طوال الوقت، ولازمتني عقدة الناجي ومازالت. صرت أبكي عند سماع كل خبر، وعند رؤية كل صورة ومشهد من مشاهد الحرب، عند كل مكالمة هاتفية مع عائلتي، وأدركتُ حينها أن مغادرتنا تلك لم تكن نجاة، نحن لم ننجُ قط، حتى لو غادرنا غزة فهي لم تغادرنا، وشعور الذنب وعقدة الناجي لم يغادرانا، كل ما فعلناه هو مجرد وصول لبّر الأمان.

شعرتُ بكدر زوجتي التي كانت تبكي معظم الوقت، لا أعرف كيف أواسيها أنا الذي أحتاج إلى مواساة، عبر خط ذكريات في خيالي، وفتحت استديو الهاتف لأستعيد تلك الذكريات السعيدة، كلّها صور لي ولها ولابني، للعائلة والأصدقاء، الأماكن والشوارع، البحر، البيت، حديقة البيت، وفيديوهات كثيرة اعتدتُ أنا وزوجتي أن نصوّرها ونرفعها على (انستغرام) نناقش فيها قضايا معينة ونضحك كثيرًا، أتُرانا لن نعيد التصوير في غزة هناك! لا أفهم: هل من الصواب أن نبقى نوثق ما يحدث في حياتنا بعدما اندثرت تفاصيلها داخل الوطن؟ وهل يكترث العالم أصلًا بهذه المشاعر التي ننشرها عبر فضاء الإنترنت؛ لربما يجب أن أحسم أمري بإطفاء هذه الكاميرا للأبد، لأن البشر على هذا الكوكب نائمون في سبات عميق لا يسمعون أنين غزة وأهلها.


كتب المقال: كل من الإعلامي الفلسطيني الغزي ساجي الشوا و الإعلامية والناشطة المجتمعية الغزية هديل أبو شعبان.

الصورة المرفقة بعنوان "الروح المهشمة" - رسم للفنانة أوانا رونالدي.

ساجي الشوا

إعلامي فلسطيني من سكان مدينة غزة، حصل على درجة البكالوريوس بالعلاقات العامة والإعلام من الجامعة الإسلامية بغزة.

شغل منصب مسؤول العلاقات العامة والاتصال بعدد من مؤسسات المجتمع المدني المحلية والعربية منذ عام ٢٠١٠، إلى جانب حبه لمجال الراديو فعمل مقدماً للبرامج المتخصصة بقضايا الشباب والمجتمع بعدد من الإذاعات المحلية وترأس قسم البرامج والتدريب براديو ألوان من عام ٢٠١٣ حتى أواخر ٢٠١٩.

يحب مجال التدريب فعمل كمدرب متخصص بمواضيع الكتابة الصحفية والعمل في بيئة الراديو والبودكاست وساهم في تدريب حوالي ٣٠٠٠ صحفي وصحفية منذ عام ٢٠١١ إلى اليوم.

شارك في تقديم الاستشارات لعدد من المؤسسات حول كيفية تطوير الخطط التسويقية والإعلانية الخاصة بالعلاقات العامة والتعامل مع الجمهود وله عدة مشاركات إعلامية بالتلفزيون والراديو والمؤتمرات تناولت قضايا الشباب والنساء وقضايا المجتمع.

رأيك يهمنا