عامٌ على حَربِ الإِبادَة: استهدافُ الوعي الوطني الجمعي

يَستَعرُ الجدل في السياق الفلسطيني حول جدوى هجمات السابع من أكتوبر وما تبعها من "ردّة فعل" إسرائيلية تجاوزت الخطوط الحمراء كلّها في الحروب المعاصرة، حيث تجاوزت إسرائيل المواثيق والأعراف الدولية كافة التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية بغرضِ تقليل حجم المعاناة والألم الإنساني، وخصوصًا تجنيب المدنيين دفعَ فاتورة الدم، الأمر الذي لم تُلقِ إليه إسرائيل بالاً، ومضت في حرب إبادة شاملة لأشكال الحياة كافة في قطاع غزة، مستهدفةً البشر والشجر والحَجَر.

لا يجب النظر إلى السلوك الإسرائيلي في قطاع غزة باعتباره مجرّد ردّة فعل فقط، بقدر ما يعبّر عن سياسات معدّة سلفًا ومخططٍ لها بعناية، تهدف في نهاية المطاف إلى حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرّة واحدة وللأبد، حيث أشارت المُعَطيات السابقة لحرب الإبادة الممنهجة إلى انتقال الفكر السياسي الإسرائيلي في ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية من حالة إدارة الصراع (دون تمكين الفلسطينيين من الوصول إلى حقوقهم السياسية أو المدنية)، إلى فكرة حسم الصراع وإنهاء المسألة الفلسطينية بضربة واحدة، لتضعَ إسرائيل الفلسطينيَّ أمام ثلاثة خيارات فقط وهي: إما الموت أو الهجرة أو الإذعان الكامل.

كان المؤرخ الصهيوني آلان باديس قد حدّد معالمَ قوس النصر الإسرائيلي، الذي يقوم في جوهره على فكرة إذعان الفلسطيني واستسلامه للرغبات والسياسات الإسرائيلية، وأنّ هذا الإذعان لن يتحقق إلا بقوة النار، وإخضاع الحياة لقوة الموت، والإيغال في الدماء الفلسطينية لأبعد حدّ ممكن، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل وعيًا جمعيًا فلسطينيًا مشوّهًا حول قدرة الفلسطيني على المقاومة من جهة، وجدوى المقاومة من جهة أخرى في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.

يفسّر قوسُ النصر الإسرائيلي هذا حجم التوحُّش الإسرائيلي في استهداف مقومات الحياة كافة دون رحمة في قطاع غزة، واللجوء إلى إيقاع أكبر أذى ممكن بالمجتمع الفلسطيني لخلق حالة من الوعي المشوّه، والبائس، وغير القادر على الوقوف والصمود أمامَ آلة الموت الإسرائيلية.

بات واضحًا بعدَ مرور عام من العدوان بأن إسرائيل أرادت تحويل السابع من أكتوبر من لحظةِ فخرٍ فلسطيني إلى لعنةٍ فلسطينية يعيشها المواطن الفلسطيني، في إطار عملية كيّ الوعي الممنهج إسرائيليًا، وحرف النقاش الفلسطيني حول شرعية المقاومة، إلى نقاش حول الدمارِ الذي تسببت به المقاومة وألحَقَته بالمجتمع الفلسطيني، وهو إحدى الأدوات الإسرائيلية لتشويه الوعيِ الجمعي.

ليسَ من العدالةِ النظرُ إلى فعل المقاومة في السابع من أكتوبر باعتباره حدثًا منفصلًا عن سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسياق الانتهاكات الطويلة التي تمارسها إسرائيل قبل ذلك، والتي أخذت أشكالًا تفكيكية وقاسية ومؤلمة بحقّ الفلسطينيين في التجمعات الفلسطينية المختلفة، وهنا يُمكن ملاحظة الطرق والوسائل التي ذهبت إليها إسرائيل في تفكيكِ المجتمع الفلسطيني، حيث وظّفت البعد البيئي لدى فلسطينيي الداخل لتفكيك الهوية الوطنية الجمعية من خلال تشجيعِ الجريمة ونشر المخدرات بِغَرض تدمير بنية المجتمع.

أما في الضفة الغربية فكان البعدُ الجغرافيّ من خلال سياسة الاستيطان، والجدار والحواجز، أحدُ أبرز أدوات التفكيك، وتحويلِ واقع الضفة إلى معازل وكانتونات منفصلة وغير متواصلة، إضافة لتعزيز سياسة التمايز بين الكانتونات الفلسطينية لتبديدِ الهوية الجمعية الفلسطينية، وخَلق حالةٍ من الهشاشة والضعف في الترابط المجتمعي والوطني الفلسطيني.

أما في غزة، فكان الحصارُ والعدوان المتكرر أداةَ إسرائيل المركزية في إضعاف المجتمع وإخضاعه لعملية كيّ وعيٍ ممنهجة وشاملة، وظّفت فيها الانقسام الفلسطيني الداخلي، وقامت بتنمية العقل الانقسامي لدى الفلسطينيين لتعزيز الفُرقةِ، كأداة لتحقيق قوس النصر الإسرائيلي.

يلاحظ المتابع لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، دون تعب، الاستهدافَ الممنهجَ لأي حالة نظام في سياق المجتمع الفلسطيني بغزة، وضرب كلّ مقومات الاستقرار المجتمعي، وفي المقدمة منها منظومة حماية وأمن النسيج الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية، ومحاولات إسرائيل خلقَ حالةٍ من البلبلة والفوضى في الشارع الغزّي.

تعتبر الفوضى في المنظور الإسرائيلي إحدى الأدواتِ الفاعلة لضرب بنية النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتدمير مقومات صموده القادرة على مواجهة تلك السياسات الإسرائيلية، خاصةً أن تجربة الصراع التاريخية الطويلة تُخبرنا بأن المجتمع الفلسطيني نجحَ في محطات تاريخية مختلفة في التصدي لسياسات التفكيك وتشويهِ الوعي الجمعي، من خلال اجتراحه العديدَ من الأدوات المجتمعية الصلبة في مواجهة الأزمات، ولطالما كان المجتمعُ يتمتع بالصلابة والمرونة المجتمعية في التعامل مع الأزمات التي تتسبب بها إسرائيل.

تريدُ إسرائيل بشكلٍ واضحٍ ضرب فكرة الصمود المقاوم لدى المواطن الفلسطيني، وذلك من خلال تعزيز أشكال الفوضى كافّة ونَشر الجريمة المنظمة والأنماط الثقافية والمجتمعية السلبية في المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي يعني خَلق بيئات طاردة للحياة، ليس بالمعنى المادي فقط، لكن أيضًا بالمعنى القيمي والأخلاقي والثقافي، الأمر الذي سيؤدي حتمًا في نهاية المطاف إلى دفع الفلسطينيّ نحو خيار الهجرةِ الطوعي، وترك الأرض وهَجر القضية، وهو جوهر قوس النصر الإسرائيلي الذي أشرنا إليه في سياق المقالة.

أخطر ما يواجه إسرائيل مستقبلًا هو الانبعاث الفلسطيني الجديد الذي يمكن أن يتولد برغم المأساة الفلسطينية المستمرة، والإبادة الإسرائيلية على مدار عام كامل بما تحمله من موتٍ ودمار تَنشره ولا تزال في كل بقعةٍ من بقاع قطاع غزة، وذلك لمنع ذلك الانبعاث الوطني وتشكل الهوية الفلسطينية الجمعية، فلا بد من ممارسة أكبرِ قدرٍ من الألم والمعاناة المستمرة والطويلة، لزرع وعي زائف ومشوه حول جدوى الحقوق الفلسطينية والمقاومة من أجلها.

تتطلبُ مواجهة السياسات الإسرائيلية والتصدي لها، ضرورةَ تبني مبادرات مجتمعية تعمل على حماية المجتمع الفلسطيني من الاستسلام للسياسات الإسرائيلية، وهو ما يتطلب استعادةَ البنى الاجتماعية والسياسية دَورَها في توحيد الجهود والانتصار للإنسان الفلسطيني وقضيّته، وحماية وعيهِ من التشويه، وهذه مسؤولية الكل الفلسطيني.


الصورة: للمصوّر عاموس بن غرشون - المكتب الإعلامي الحكومي.

د. طلال أبو ركبة

كاتب وباحث فلسطيني.

رأيك يهمنا