حملات الإغاثة، من الملهوف؟!
كنا أطفالا، وكنا مبهورين بأترابنا الذين ملأوا الدنيا وشغلوا أهلها، فصرنا نقلدهم: نصنع المقاليع مثلهم ونغني أغانيهم في الحارة والصف المدرسي وقبل النوم: "ما بدنا طحين.. يويا.. ولا سردين.. يويا.."
وبينما كنا نغني هذه الأغنية في أحد الأيام، دخل "طندر" قديم الحارة، تتوسطه حطة فلسطينية ترفرف بشموخ وكبرياء وعلى طرفيه سماعتان مخروطيتا الشكل معدنيتان يجلجل عبرهما صوت نعرفه جيدا في البلدة، ينادي إلى إغاثة أبناء شعبنا في الاراضي المحتلة، وفي مقدمتهم أولئك الأطفال إياهم: أطفال الحجارة.
كان هذا الصوت، صوت "أبو العبتشي" يؤكد أن علينا تلبية الواجب "الوطني والإنساني والديني"، وكانت الحارة تلبي النداء بكل حرارة:من رشحة الرز، مرورا بحصالة الأطفال، وإلى "صيغة" النساء.
في المساء، كان أبي فخورا بما جُمع من الحارة، ولما سألته: "طب همي مش بحكوا ما بدنا طحين ولا سردين. لي نوديلهم؟" ضحك وقال: "هم ما بدهم سردين ولا طحين من اللي بده يحاول يذلهم بالطحين والسردين ويدفعهم ثمنهن موقف سياسي. احنا بدنا نوديلهم السردين والطحين مشان ما يحتاجوا هظولا الناس."
لم أفهم كل شيء لكن الفضول غلبني:
- "طب أنمي هظولا الناس؟"
- همي اللي بالأغنية يابا، الحكام التنابل.
في مرة ثانية سمعت صوتا مجلجلا آخر في السيارة يرحب بأب شاب يحمل على ظهره بكل فخر ابنه الذي تبرّع بحصالته ويلح عليه أن يأخذ وصلا بقيمة التبرع، إلا أن الأب يرفض تأكيدا على الثقة، فيلح صاحب الصوت عبر المكبرات، متعمدا اسماع كل الناس: خذ الوصل وخبيه بألبوم ابنك مشان لما يكبر يحس بدوره بدعم القضية."
كنا صغارا ولم نفهم كل شيء لكننا حفظنا الدرس قبل أن نفهمه: عند كل جريمة أو مجزرة أو حصار نحن على موعد مع اقتحامين: في الصباح ننتظر طلاب المدرسة الثانوية يقتحمون مدرستنا الابتدائية ليخرجونا فنتظاهر حتى مدخل البلدة وفي المساء يقتحم الحارة "طندر" لجنة الإغاثة الشعبية!
**
حملات الإغاثة كانت وما زالت مشهدا أصيلا في بلداتنا العربية، حتى وان استبدلت التطبيقات الالكترونية "الطنادر"، ودائما تعاملنا معها على أنها جزء تكاملي من الموقف السياسي الذي نعبر عنه أول ما نعبّر في الشوارع والميادين "حين يشتعل الناس غضبا".
أذكر أن الحملات كانت دوما تحمل عناوين تؤكد أن هذه الحملات ليست منة ولا معروفا من أحد لأحد إنما هي جزء من واجبنا تجاه أهلنا المحاصرين، وأذكر من تلك العناوين على وجه الخصوص العنوان الذي يحكي خصوصية حملاتنا: "مع الأهل نتقاسم الرغيف".
وقد جرت العادة أن نؤكد بأننا لا نملك ما تمتلكه دول العالم من مقدرات، لكننا نقوم بهذه الحملات أولا وقبل أي شيء تسجيلا للموقف ورسالةً تربوية للأجيال القادمة، ونعتز بما نقدم مقتبسين "قصة الأرملة الفقيرة" وبحسبها فإن عيسى عليه السلام رأى امرأة فقيرة تتبرع بما لديها من مال شحيح فقال لطلابه: "الحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزينة. لأن جميعهم ألقوا من فضلتهم، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما عندها، كل معيشتها."
**
مياه غزيرة جرت في نهر الأردن، بغزارة الدماء المراقة في غزة المحاصرة، والحال ما عادت هي الحال. مر مجتمعنا بتغيرات بنيوية عميقة، غيرت الكثير من اهتماماته، إلا أن الفطرة ظلت على حالها: التلهف لإغاثة الملهوف، سيما وإن كان ابن لحمك ودمك.
في الحرب الإجرامية الأخيرة على غزة، حرب الإبادة السافرة دون أي رتوش، بتنا على شفا الانفجار: منذ اليوم الأول أطبقت على أفواهنا قبضة حديدية لم نعرفها بهذه البشاعة والثقل من قبل، حاولت أن تمنع أي تنهيدة دعم للأهل في قطاع غزة، واستهلك الأمر وقتا طويلا حتى بدأنا نتمكن من تنظيم التظاهرات والنشاطات الاحتجاجية، إلا أننا كنا نقوم بكل خطوة بقنطار من الحذر لئلا يقع شبابنا لقمة سائغا في فم الغول الفاشي المستوحش لابتلاعهم.
أمام عجز الدول العظمى عن ادخال "شربة مي لغزة" عجزنا نحن أيضا، وبقينا أشهرَا طويلةً نتلمس الطرق إلى بل ريقنا بتوفير ولو قنينة ماء للأهل في غزة، علما أن الاستقواء الصهيوني على مجتمعنا العربي، تعدى الاعتقالات على منشورات بسيطة، بل ووصل إلى حد أن تتخذ البنوك الإسرائيلية لنفسها مكانة السلطة القضائية والتنفيذية فسمحت لنفسها في كثير من الأحيان تجميد حسابات مؤسسات خيرية وغيرها لمجرد شكها بأن هذه المؤسسات تقوم بدعم غزة بهذه الطريقة أو تلك.
ورغم كل المصاعب وجد الأهل هنا الطرق إلى إدخال التبرعات لغزة، أحدُهم قال لي: كنت أذهب إلى البنوك في الضفة الغربية ومعي مبالغ من المال، أنتظر زبائن البنوك عند المدخل وأعطيهم مبالغ معينة مسموح بها وأطلب منهم أن يحولوها عبر حساباتهم إلى حسابات في قطاع غزة، وهكذا حوّلت مبالغ طائلة، وآخر قال: نوصل التبرعات لمؤسسات خيرية معروفة في الولايات المتحدة وثالث عبر مؤسسات في اليونان!
الإغاثة التي كانت حتى الأمس القريب فعلا إنسانيا فطريا نقوم به دون أي تردد باتت مصيدة يحاولون من خلالها إلصاق التهم بنا، مرة بحجة دعم ما يسمونه بالإرهاب وهو مصطلح جعلته القوانين والأعراف الاسرائيلية مطاطيا فضفاضا بشكل غير معقول، وأخرى بحجة نقض قانون منع الحيازة على مبالغ نقدية كبيرة.
في أواخر حزيران من هذا العام كان قد أعلن الاحتلال عن السماح بإدخال أصناف محددة من البضائع من تجار فلسطينيين في الضفة الغربية إلى تجار في غزة، وهنا بدأنا مجموعة من النشطاء بالتواصل مع "لجنة الإغاثة الزراعية الفلسطينية" ولها مكاتب في غزة والضفة الغربية ومن خلالها تمكنا من شراء بعض هذه الشاحنات لتوزيعها في غزة إلى جانب شراء المياه المحلّاة من القطاع نفسه لتوزيعه مجانا.
هذه الحملة كانت غير كل تلك الحملات التي عرفناها: نحن استبدلنا مكبرات الصوت أو حتى الإعلان بصوت عال عبر شبكات التواصل واعتمدنا بالأساس، على طرق البيوت بهدوء ودون ضجيج، وهكذا كان المتبرعون، هذه المرة كثر منهم رفضوا استلام الوصولات ولكن ليس فقط تأكيدا على الثقة انما لئلا تكون مستندات ضدهم في مسلسلات الملاحقة التي لا تنتهي.
هذه المرة أكثر من أي مرة مضت شعرنا بأن المبلغ مهما كبر أقل من أقل الواجب وأن قيمته الوحيدة هي برمزيته. هذه المرة كنا نعرف أننا لا نغيث الملهوف الغزي إنما نغيث أنفسنا نحن بقليل من مشاعر القدرة على فعل شيء. أي شيء في موسم العجز القاتل.
أمجد شبيطة
سكرتير الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وأحد القائمين على حملة "فكر بغزة".