المساعدات الإنسانية لغزة، القشة التي قصمت ظهر الجمل

 بالنسبة لستيسي جيلبرت، فإن المذكرة الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية في أيار/ مايو الأخير حول المساعدات الإنسانية لغزة، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ودفعتها لتقديم استقالتها على الملأ بعد أكثر من عشرين عامًا في السلك الدبلوماسي الامريكي. تقول جيلبرت "عندما صدر التقرير قرأته مرارًا وتكرارًا لأتأكد من أنني لم أفهمه بشكل خاطئ"، وكان التقرير الذي تم تعديله على حدّ وصفها، قد ذكر بشكل واضح أن إسرائيل تلتزم بالقوانين الإنسانية الدولية وأنها لا تعرقل دخول المساعدات، وهو ما يتناقض تمامًا مع المعلومات التي تتدفق لوزارة الخارجية الامريكية والعالم، من المؤسسات التي تعمل على الأرض في غزة، فكيف يمكن تكذيب مقاطع الفيديو لمستوطنين يحاولون بأجسادهم منع شاحنات المساعدات والبضائع، من الدخول الى القطاع بحضور الشرطة الإسرائيلية التي لم تحرك ساكنًا في معظم الأحيان، والمحللين العسكريين الذين حثوا الحكومة على تضييق الخناق على غزة.

ستيسي جيلبرت

التقرير الذي قُدم الى للكونجرس بطلبٍ من البيت الأبيض، يكرّر ما يقوله المتحدثون الرسميون في الإدارة الامريكية الى حد الملل عن"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مشيدًا بالمؤسسات الإسرائيلية الموثوقة على حد تعبير التقرير، والتي تساهم في كبح جماح الحكومة الإسرائيلية لضمان تنفيذ القانون الدولي، وذلك من خلال محامين عسكريين يقدمون المشورة القانونية التي تعتبر ملزمة أثناء العمليات العسكرية على حد تعبير التقرير. يؤكد التقرير على ثقته بقرارات إسرائيل المستمدة من المحكمة العليا الإسرائيلية التي برأيه تقدم مراجعات قضائية للقرارات المتعلقة بالحرب، متجاهلًا محاولات الحكومة الحالية بتقويض المحكمة العليا ومحاولاتها الدائمة للالتفاف على القانون الذي وضعته إسرائيل بنفسها. كل ذلك دون الإشارة لأي أدلةً حقيقة على الأرض تثبت التزام إسرائيل بهذه الحجج وتتغاضى عن التقارير الإنسانية التي تحذر من مجاعة وانتشار للأوبئة وتردي الحالة الصحية في القطاع.

في المقابل في السابع عشر من حزيران الأخير أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بيانًا يضاف لعشرات البيانات والتصريحات والذي أكدت من خلاله التحديات الخطرة التي تواجهها طواقم الأمم المتحدة لتقديم المساعدات، لاسيما وأن ذلك يتوافق مع الاخبار التي تصل من غزة، فغالباً ما تعجز القوافل الإنسانية عن جمع وتوزيع المساعدات. ويضيف البيان انه على الرغم من الحوار المستمر مع السلطات الإسرائيلية وبعض التحسينات، فإن المطلوب هو أكثر من ذلك بكثير.

في الحقيقة فإن لهجة المسؤولين الأمريكيين لم تتغير منذ بداية الحرب، مانحةً "الثقة المطلقة" لإسرائيل على أساس غير ملموس بالحفاظ على القوانين الدولية، وفي كل مرة سئل البيت الأبيض ومستشار الامن القومي عن عرقلة ادخال المساعدات كانت الإجابات باهتة، على الرغم من إصرار الصحفيين بشكلٍ يومي اثارة هذه القضية بأسئلة متكررة عن الموضوع لينتهي المطاف دائمًا بإجابات مكررة مبتذلة وباتت غير مقنعة، ليس فقط للصحفيين فحسب، بل ايضًا للعاملين والمدافعين عن هذه الإدارة.

فعليًا موقف الولايات المتحدة من هذه الحرب ليس فقط بشأن المساعدات الإنسانية، بل في قضايا أخرى عالقة، وضعت إدارة البيت الأبيض في مأزقٍ امام العالم، ولكن أمام موظفيه على وجه الخصوص، وتوالت الاستقالات منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الأخير إحتجاجًا على سياسة أمريكا ووصفت حملة الاستقالات العلنية بانها غير مسبوقة. واللافت في هذه الاستقالات هو أن هؤلاء ليسوا مجرد اشخاص ساذجين انفعاليين، بل هم اشخاصٌ عايشوا سياسات الولايات المتحدة وكانوا قادرين في الدفاع عنها او المناورة في الرد على معارضيها في كثيرٍ من القضايا التي احرجتها كحرب العراق وأفغانستان وحروب إسرائيل السابقة على غزة، ولكن هذه الحرب كانت فارقة بالنسبة لهم ودفعت بالكثيرين نحو إعادة النظر أولا بعلاقة البلدين وخضوع أمريكا لإسرائيل وثانيًا في مصالح هذه الدولة العظمى وتحركاتها في الشرق الأوسط، فمنذ بداية الحرب توالت الاستقالات من الإدارة الامريكية التي وصفت بغير المسبوقة. تحدثت مع عدد من الموظفين المستقيلين الذين يعرفون أن استقالتهم قد لا تؤثر على توجهات هذه الإدارة ويعرفون أنهم قد يدفعون ثمنًا شخصيًا باهظًا إزاء هذا الموقف العلني، إلا أن احدى الموظفات السابقات قالت لي "لم أستطع أن أكون جزءًا من هذه السياسة فقدمت استقالتي"، وأكدت أن هناك مجموعة كبيرة من الموظفين لا يزالوا يعملون في الإدارة الامريكية لا يتوافقون مع سياساتها وقد يكون هناك موجة إضافية من الاستقالات في الفترة القريبة.

موجة الاستقالات العلنية من أقسامٍ مختلفة في الإدارة الامريكية، ضمت أحد عشرَ موظفًا من بينهم جوش بول من كبار المستشارين السياسيين في البيت الأبيض الذي ينشط بشكلٍ كبير ضد الحرب الإسرائيلية على غزة ويدعم كل من يفكر بالانضمام الى هذه الخطوة الاحتجاجية.

جوش بول

في نهاية المطاف، وفي ظل الحرب الشرسة على كل من يناصر القضية الفلسطينية ويطالب بوقف الحرب الوحشية في غزة، فإن هذه الخطوات الاحتجاجية تعني الكثير في المنظور الاستراتيجي، وعلى الرغم من أن تأثيرها في هذه المرحلة محدود، إلا أنها قد تبشر بجيلٍ جديد على المستوى السياسي من داخل الدولة العميقة، والذي يرفض ان يكون مجرد ختمٍ على ما يريده آخرون وربما يكون بداية نهاية التعصب السياسي دون تفسيراتٍ تتوافق مع المنطق الإنساني والمصلحة العامة للأمريكيين كما يقول الجيل الذي يقود هذه الاحتجاجات.

 

من واشنطن – العاصمة.


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

سماح وتد

صحافية مختصة بالشأن السياسي والاقتصادي، وطالبة ماجستير في الإعلام السياسي والعلاقات العامة في جامعة جورج واشنطن الامريكية

رأيك يهمنا