هل تراجع الاهتمام والتضامن الدولي مع غزّة؟
يوم الثلاثاء الماضي امتلئ بالحزن والفقدان على الصديق والجار العزيز الأستاذ سميح داوود الذي توفي في مدينة غزة، بعد نزوح عدة مرات ومعاناة امتدت عدة أشهر بسبب عدم توفر العلاج المناسب له، كونه اكتشف إصابته بالتهاب الكبد الوبائي C، وتطور المرض ليصبح تليّف في الكبد في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي.
نزح داوود من مدينة غزة في الأسبوع الأول من الحرب، وأقام في مدينة دير البلح مدة أسبوعين، ثم أصرّ على العودة إلى مدينة غزة مع زوجته وابنته، في حين ظلت ابنته الثانية وزوجها وابنهما في رفح.
أقام داوود في حي الجلاء عند أقاربه بعد تدمير الجيش الإسرائيلي منزله بقصف بالطائرات الحربية في حي تل الهوا، اضطر بعدها للنزوح من الجلاء نحو منطقة الصحابة والدرج، ثم إلى الزيتون والشجاعية، وأخيراً “استقر” في حي الرمال الشمالي حيث توفي.
كان داوود يتلقى العلاج في مستشفى الشفاء الذي تمت مداهمته وتدميره، واضطر بعدها لتلقي العلاج في مستشفى اصدقاء المريض والمستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، اللذين لا تتوافر فيهما الإمكانات والعلاج المناسب، وظل يتلقى المسكنات وسحب المياه الزائدة من جسمه إلى أن وصلني خبر بوفاته.
عاد داوود إلى فلسطين منتصف تسعينات من القرن الماضي، حيث كان يقيم ويعمل في دولة الكويت التي أجبر على مغادرتها بعد أن اجتاحها صدام حسين وجيشه، فنزح إلى اليمن وأقام عدة سنوات هناك، ثم عاد إلى غزة.
حالة داوود واحدة من أكثر من 20 ألف مريض ومصاب محرومون من حقهم في العلاج بسبب إغلاق معبر رفح منذ السابع من مايو/ أيار الماضي، ما ترك القطاع في ظل أزمة إنسانية خطيرة وغير مسبوقة، بسبب قطع الجيش الإسرائيليّ طرق الغذاء والماء والمساعدات، ما جعل المجاعة في القطاع تأخذ منحى أخطر مما كانت عليه، فالأطفال يعانون من سوء التغذية وتوفي العشرات منهم جوعاً.
تصف غزاوية سألتها عن توزيع المساعدات أحد مشاهد توزيع المساعدات قائلةً:” كنا قاعدين على باب المحل النازحين فيه، وفجأة وصلت ٣ جيبات UN وخلفها شاحنات محملة خضروات وفواكه، صاروا الناس يجروا ويرموا لبعض خضرا من الشاحنة، صحلنا شوية خضار وملوخية.. المنظر محزن وبقهر ممسكتش حالي من العياط، الناس حزنت ع بعض وصاروا يرموا الخضار عالأرض عشان الكل يأخذ”.
في غزة لم نعد نعرف أصدقاءنا بسبب تغييرات كبيرة حدثت في أوزانهم ومظهرهم الخارجي، فالكثيرون لا يأكلون وجبات غذائية كافية، الأمر الذي يؤثر سلباً على صحتهم.
صديقي الصحفي الذي التقيته قبل أيام ولم أعرفه، تغير لون بشرته إلى الأسمر الغامق، هو يقيم مع عائلته في خيمة، في منطقة مواصي خان يونس، عملياً الخيمة هي عبارة عن حمام زراعي، وهذا الوصف الذي يطلقه الغزيون على الدفيئات الزراعية المصنوعة من البلاستيك التي تستخدم لإنضاج الخضروات في فصل الشتاء.
وصف صديقي العيش في ما تسمى الخيمة، بأنها ليست مكاناً صالحاً لسكن البشر، والاقامة فيها فهي تجرد الانسان من انسانيته.
المقتلة وسط غياب الاهتمام
يبدو أن اسرائيل قررت الاستمرار في القضاء على جميع الغزيين جسدياً، مطبقة أساليب مختلفة في حرب الابادة، وسط خوف يسيطر على الغزيين بسبب تزايد عمليات القصف والقتل في كل مكان.
يرى بعض الغزيين أن هناك عدم اهتمام دوليا وعربيا بالحرب على غزة، وأنها تحوّلت لحرب استنزاف طويلة، ناهيك بأن تتغول أكثر في غزة دون ردود فعل عالمية. لكن هذا ليس شعوراً، برأيي هو الواقع، فهذه ليست حرب استنزاف، إنما استمرارا للإبادة.
الواقع برأيي أن الفلسطينيين تركوا وحدهم خصوصاً مع تراجع زخم التضامن الدوليّ خلال الأشهر الماضية، واستمرار العمليات العسكريّة الإسرائيلية دون الوصول إلى أي هدنة، وهذا ما يتضح في تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي قال:” على عكس العمليات السابقة لدينا هذه المرة الشرعية لمواصلة القتال حتى النهاية”.
أكد نتنياهو أكثر من مرة أن هذا وقت زيادة الضغط العسكري على حماس من أجل إعادة المختطفين أحياء بثمن “لا يعرّض أمن إسرائيل للخطر”، وهذا ما ترجم بالقصف الجوي وارتكاب المجازر الجماعية كما حصل خلال عملية “أرنون” التي هدفت لاستعادة المختطفين الاسرائيليين من مخيم النصيرات الشهر الماضي.
تكرر الأمر في مجزرة المواصي في خان يونس، حين قتل أكثر من 90 فلسطينيا في منطقة مُكتظة بعشرات آلاف النازحين والمقيمين في بيوت من البلاستيك، قصفت بقنابل أمريكية بأوزان ثقيلة شديدة الانفجار، بذريعة اغتيال القائد العسكري لحركة حماس، محمد الضيف.
تعميق الخلاف الفلسطيني- الفلسطينيّ
مع كل هذه المجازر والأهوال التي يعيشها الناس، يبدو أن هناك وقتا لدى بعض الفلسطينيين لتعميق خلافاتهم والانقسام بين غزة والضفة الغربيّة، وذلك على ضوء بيان الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي حمّل حركة حماس جزءًا من المسؤولية عن المجزرة التي قامت بها إسرائيل في مواصي خان يونس.
التصريح السابق اعتبره جزءٌ كبيرٌ من الفلسطينيين بأنه محاولة من قبل السلطة الفلسطينية لزيادة الانقسام، بدلاً من دعم المواطنين، وهذا ما يشير إلى عُمق الأزمة وانعدام الثقة بين الفلسطينيين، وزيادة الشعور بالإحباط الذي يشعر به الغزيون تجاه القيادة الفلسطينية في رام الله.
يدلّل الغزيون فقدان التضامن العربي والدولي، بل وحتى الفلسطيني في الضفة الغربية وفلسطينيّ الداخل بأنهم لم ينظموا أي تظاهرات احتجاجية، بل والتدليل بان غزيين “حضروا” مباراة نهائي كأس اوروبا لكرة القدم بين المنتخب الإسباني والمنتخب البريطاني عبر الراديو، وهذا كلام سخيف، خصوصاً أن لا إذاعة سوى العبريّة، والاستماع مشقة بسبب أزيز طائرات الاستطلاع وقلق انتظار القصف القادم.
أما العالم العربي فلا صوت ولا صورة، ومن الواضح للجميع أنه لم تعد تُمارس أي ضغوط عربية على أحد، خصوصاً إسرائيل.
لم يعد يخفي الناس في قطاع غزة الانتقادات، والشعور بأنهم تُركوا وحيدين منذ بضعة أشهر، بسبب عدم نجاح المجتمع الدولي في وقف الحرب. وفي الأيام الأخيرة، لقي هذا الشعور صدى بشكل متزايد إثر المجازر الواسعة التي نفذتها إسرائيل في مواصي خان يونس، وفي النصيرات، وفي مخيم الشاطئ في مدينة غزة، يشعر الناس غزة أن الاهتمام الدولي يتركّز على مصير الضيف لا على الثمن الذي يدفعونه.
عن موقع درج.