الهزيمة كفعل
أن تكوّنَ معلَّقَاً في قِلادةِ
قاتِلِكَ والدالّ على
اسْمِه
أن تبنيَ لَهُ بيتاً من حجرٍ ملوَّنٍ
بزيتِ أبيكَ
وتسْكُنَ في نَوْمِه
أنْ تَمُوتَ شهيداً سعيداً
في فُوُّهَةِ طينٍ ورملٍ
من رَسْمِه
أن توجدَ بفعلِ هزيمةٍ
ونصرٍ في صَلاتِه
ومَصْلِه
أن تَنْسُبَ نفسَك إليهِ بِخَفَرٍ
وفخرٍ وتناديَ
بعدمِه
ويطلبَ قلبُكَ أنْ يُحِبَّ
ابْنَةَ عَمِّكَ
بِأِذْنِه
وهوَ؟ أنْ يُريدَ هزيمتَكَ
ويخافَ
مِنْ نَصْرِه
عنوان المقال هو استنتاج، لم يتراجع ليكون بتدني الشعارات ولم يتطور ليكون بمستوى فكرة مؤسِّسة. ربّما أكثر ما أقنعني به هو أنه لم يكن نتاج تجارب شخصية، وإن لم تخلُ الحياة من هزائم، ولكنّه قراءة في الشأن العام. في مرحلة معينة التّماهي التّام مع الشأن العام هو الذي دفعني إلى هذه النتيجة والتقدير، بل وتبنّيها كخطة عمل ذاتي ونصيحة للآخرين، لمن يطلبها من الآخرين.
عندما تنكر الهزيمة وتقنّعها بأقنعة لا تقربها ولا تشفّ عن ماهيتها، أنت لا تغير واقعها أو وقعها ولكنك تحجبها عن نفسك وتحوّلها إلى عدو خفي بدل أن تكون عدواً ظاهراً. وأكثر من هذا، إنها تمكّن خصمك منك فيستمر ولا يتوقّف، فهي أداته كي يمعن فيك فلا يرفع يداً ولا ينزل رحمة، فالهزيمة لا تتمّ إلا باعتراف الطرف المهزوم، ويجب أن تتمّ. وما المآل في مثل هذه الحال؟ في تقديري، لا مفرّ من حالة انفصام قاتلة، فكيف يمكن أن تفسّر البؤس وتبعات الهزائم وأثمانها بينما ترفل مرتاحاً في انتظار الهزيمة متوهّماً أنّها لم تحصل بعد. الانفصال بين ما تلتقطه بحواسك، فتراه وتسمعه وتشمّه وتحسّه وتذوقه مَراراً لا يسّمى هزيمة، فما هو؟ هو طريقك للجنون، جنون مجتمع جمعي وجماعي، فحالة الفوضى والسيولة لا تجد لها لحظة زمنية مؤسّسة هي لحظة الهزيمة، اللحظة بأل التعريف.
نحن شعب تكوّن ما بين هزيمتين، الحرب العالميّة الأولى والنكبة. أنا ممن لا يترددون في هذا التوصيف ولا أراه منقصة أو مسّاً بأصالة وجودنا في أرضنا، بل هو توصيف دقيق للحقيقة وأقرب تفسير لواقع تشكّل شعوب المنطقة داخل التنظيمات السياسية الوليدة من موت الإمبراطورية العثمانية. فهو بقاء وانتماء أكثر عمقاً وتشبّثاً من تنظيم سياسي حديث اجتلبته الشعوب المنتصرة على المهزومة وصاغته بلغتها ومفاهيمها، غلّفته هي بهيمنتها وتلقّفناه دون أدنى مقاومة. صفقة نمت لتكون استعماراً، تطور لأشباه دول تعدم السيادة والاستقلال. فلا تستطيع، وإن أرادت إذا أرادت، الحفاظَ على نفوس وممتلكات أراضيها وسكّانها. وجلبت معها ظاهرة قيادية تتسيّد الوضع القائم وتطلب كل حقوقها، بل تطلب ما هو أكثر من هذا، لكنّها لا تلتزم تجاه الجموع بأي حق أو حساب. وتسقط القيادة نفسها من قائمة أسباب الهزائم وتتهم فيها كل شيء، عداها. النتيجة أن يقبع السياسيون ونقبع معهم في حالة برزخية من الانتظار، فكما لا بداية لا نهاية أيضاً. ظاهرة استُنسخت في قياداتنا وحتى في ثقافاتنا الاجتماعية.
من يملك كفاءة الهزيمة يملك كفاءة الانتصار، أما من لا يُهزم فإما هو فوق البشر أو أدنى منهم ولسنا الأولى ولا نريد أن نكون الثانية ولا نريد أن نقضي في تنازع بين اثنتين. حيّ الصمود، صحيح، وانا أحيي الصمود ولكن لا أخفي عن نفسي أنه مرحلة انتقالية نحو نهاية تحتمل الوجهين: الانتصار أو الهزيمة. ولا تمنع هزيمة حدوث أخرى، ولكنها أيضاً لا تمنع حدوث انتصار. يداعب الجنين خيال أمه، فتتصور شكله وملامحه وصفاته وفق أحلامها وتمنياتها ومخاوفها أيضا. نحن لا نستطيع أن نتصوّر انتصارنا ولا أن نحمله جنينا في رحم أعمارنا، وقد ترعبنا فكرة أنه قد يشبه هزيمتنا، فنختبئ في يومنا ولا نتحرك.
تأدّبنا بالهزيمة الكاملة يوم أُحد وبالاقتراب منها في حُنين ومؤتة، وكانت لحظات مؤسّسة في تاريخ الإسلام لا تقل أهمية عن إنتصار بدر. أدركنا إمكانية القيام من بعد السقوط وضرورة الأخذ بالأسباب. ليست كل هزيمة إبادة ولكن عدم إدراكها قد يطيلها أو يمنع الخروج منها. ليس جلداً للذات ولكن جلد للواقع، موجع أن تولد في زمن الهزائم أو في أرضها، وجع معنوي لا يستهان به يضاف إلى وجع الاستحقاقات الّتي تُدفع وقد تودي بك وبمن تكون. لكن الهزيمة ليست نحن، هي فعل أو عدم فعل ونتيجتهما، لم نرثها صفة فينا لا سبيل إلى التخلص منها، والأهم أننا لن نورثها وزراً تُقتل به الأجيال القادمة. هي شأننا مع نفسنا وليس شأننا مع من غلبنا. فالهزيمة مغرية، تُبنى عليها أمجاد شخصية بالية وتستريح لها نفوس ضعيفة، وتتكاسل أمامها عقول وهمم، وهذا شأننا، لن نخلص منه إلا بأيدينا.
مختصر القول، إن إحداثيات الهزيمة لها زمان ومكان وأصحاب وقد يكون لها أبطال، لكن بالإمكان حصرها وربط الرداءة القائمة بها، فلا نلوّث بها المستقبل أو خيال التغيير. إذا لم تقتلنا فعليها أن تدخل في دائرة الماضي وأن تتحول كل المحن، كل الاختناقات، كل الضربات وكل المعاني إلى محاولة للقيام، للخروج من البئر، لاستهلال الكتابة والقسم الأهم من الرواية. إدراك الهزيمة كحدث هو استدراك لها. فهي هزيمة ولكن ...
أعترف أنني أصبحت لا أطيق سماع هتافات البقاء وتشبيهنا بالزعتر والزيتون، ولا أريد الجثوم على صدر أحد. لا أرى في هذه النسبيّة حريّة أو مشروع حياة. فهي نسبيّة دائماً ترتكز على قصة الغالب، لا قصة المغلوب، وهو نحن. عليّ منذ الآن أن أكون غيري، كما قال درويش؟ نعم، أنا أتفق معه، لكن من حدّد أي غير عليّ أن أكون؟ على "الهزيمة كفعل" أن تكون حالة إدراك جماعيّ، نموذجاً تفسيرياً، وآلية لإعادة قراءة قد تخلّصنا من الركاكة السائدة في خطابنا ومعاشنا اليومي ولغتنا، فلا يكون تحّركنا تجاه صدى لوهم لحظة نصر وصفاء في الماضي، لحظة لم تكن. الهزيمة كفعل هي تحمّل مسؤولية، فردي وجماعي، تجاهها وخطة تواضع وصبر للتخلص منها.
د. نيڤين سمارة
طبيبة نساء وأخصائية في مشاكل الإنجاب والإخصاب الخارجي. تحضر حاليا للقب ثاني في مجال الاخلاقيات الطبية