هَل للمثقّف العَربي الفِلسطيني دَور مُؤثّر في واقِعِه اليوم؟

كثيرةٌ هي القَضايا المجتمعية والأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعيشها العربي في الداخل الفلسطيني ويعاني منها، وعلى رأْسها قضيّة هَدم البيوت، والعُنف المستشري في البلدات العربية، والضائقة السكنيّة، والتمييز العنصري، والقوانين الجائرة بحقّه، وافتقاره للأمن والأمان وغيرها من القضايا.  وَكَأن هذا كلّه لا يَكفيه، حتى يَأتي السابع مِن أكتوبر من العام 2023 وتُشنّ حرب طاحنة، ومجنونة، لتزيد مِن مُعاناته، وَلَو بشكلٍ غير مباشر.

مُنذ السابع من أكتوبر والعَربي في الداخل الفِلسطيني يَلتزم الصَّمت، وأسباب صَمته كثيرة. لكنّ اللافت للانتباه هو صَمت المثقّف أيضًا. فَكان تَراجُع الأغلبيّة السّاحقة مِن المثقّفين عن التزاماتهم الأَخلاقيّة والنقديّة تِجاه مُجريات الواقع، وبالذات تِجاه حَرب طاحنة، مَدعاةً للتساؤل عن: مَن هو المثقّف؟  وما هو دَوره؟ هَل هو ذاك الحامل الألقابَ الجامعية؟ أو ذاك الذي يَعمل بوظيفة ذهنيَّة، أو نَشاط فِكري كالمعلِّمين وأساتذة الجامعات، والقُضاة والمحامين، والفنانين والمترجِمين، والكتَّاب والأدباء وغيرهم؟ والجَواب، ليس بالضرورة مَن ذكرتُ، إذا كان هؤلاء يَتواجدون في أبراجهم العاجيّة. لأن المثقّف الحقيقي هو الذي نَجده بَين الناس، ويَحمل الهمّ العام، وهو المؤثّر في بيئته وعلى واقِع محيطه وعالمه، وهو الذي يُدرك المُشكلات التي يعانيها مجتمَعُه، وبإمكانه أن يشخّص هذه المشكِلات، ويَطرح الأسئلة حولها.

في حِوار صَحافي معي قبل سنوات عدّة ماضية سُئلتُ: هل للمثقَّف برأيكِ، دور فعليّ ومؤثّر في المنظومة الاجتماعية التي يَعيش فيها؟ وكانت إجابَتي كالتالي: "مِن المَفروض أن يكون للمثقّف دور وتأثير على بيئته وعلى المُجرَيات في واقعه، ولو أنّه ليس من المفترَض به أن يَجِد الحُلول لقضايا مجتمعه وأزماته. لكن عليه على الأقل أن يَطرح الأسئلة حَول هذه القَضايا ويسلّط الضوء عليها بأعماله وكتاباته ومشاركته بالفَعاليات المتعلّقة بِها".

ولنأخُذ على سبيل المِثال مَوقف الكتّاب والأدباء والشّعراء في الداخل الفلسطيني، الذين وَجَدوا أنفسهم في حالة خَرَس إِزاء الحرب على غزة؛ فالسوْط المسلّط فَوق رقابهم، أخرَسَهم من جهة، ومن جهة ثانية شَعَر كثيرون منهم أنهم أصيبوا بعُقم التعبير، إذ تَعجز الكَلمات عن وصف أهوال حَربٍ طاحنة. وادّعى آخرون أنهم ليسوا قياداتٍ سياسية تحلّ وتَرْبِط، أو في مَوقع اتّخاذ القرارات، فلاذوا بالصّمت. واتّجه بعضهم إلى الإنتاج، فَكَثُرَت إصداراتهم الأدبية بشتّى أجناسها، ونشطت المنتديات الأدبية والفعاليات الثقافية بعيدًا عن مآسي الحَرب في غزة، ظنًا مِنهم أنّ هذه الغزارة من النِتاج الأدبي هي مقولتهم: "أنْ لا يَأس مع الحياة". هذا بالطبع جيّد، إذا كان الحديث عن أدباء وشعراء وكتّاب غزة، الذين يُعبّرون بأقلامهم (وهي سِلاحهم الأَجمل)، يوميًا، بَل كلّ ساعة وكلّ دقيقة، عن خَوفهم وحُزنهم وأَلمهم وجوعهم. لقد صوّروا في قصائدهم ونُصوصهم ونتاجاتهم الأدبية مآسي الحَرب التي يعيشونها، ووثّقوا لها. أمّا قصائد أُدبائنا في الداخل الفلسطيني ونُصوصهم عن جَمال الخَريف ورومانسية المَطَر والحبّ والعشق في هذه المرحلة، فهي مَفصولة عن الواقع.  إِذ كيف يُمكِن تذوّق الأدب النّاعم الهامس ونحن نَعيش في زمن الموت، والخرَس الجَماعي؟! يُكتب هذا النّوع من الأدب للمترَفين والأحرار، ونحن الآن غَير ذلك. بالطبع، لا أُطالِب المثقفين -وبِضِمنهم الشعراء والأدباء- بإيجاد حلول لأَزمات مجتمعهم، أو أن يكونوا في موقع اتّخاذ القرارات في شؤون مصيرية كَوَقف الحرب على غزة، لكنّي أطالبهم ألّا يكونوا مَفصولين عن واقعهم. كُنت أتوقّع، على الأقل، القيام بمبادرة ما، تَقول لأهلنا في غزة: "نَحن نَراكم ونشعر بأَلَمكم". كأن يَصدر عن اتحاد الأدباء والكتّاب في الدّاخل الفلسطيني (لَدَينا أَكثر مِن اتحاد)، عَريضة يوقّع عليها الأدباء والمثقفون الفلسطينيون في الداخل الفلسطيني، لوقف الحرب مثلًا. لقد فَعَلها أُدباء ومثقّفون وشَرائح أخرى في المجتمع اليهودي، فلِمَ لا يفعلها مثقَّفونا نحن؟!

مرّة أخرى أؤكد، بأنه ليس مفروضًا على الأَديب أو الكاتب إيجاد الحُلول للقضايا والأزمات، لكن عَليه ألا يكون مفصولًا عَن واقعه، كذلك عليه أن يَطرَح الأسئلة حول هذه القضايا، ويسلّط الضوء عليها بكتاباته، بل وأن تُؤدي كتاباته بقارئها لأَن يسأَل نفسه الأسئلة، لأننا عندما نَطرح الأسئلة، نبدأ بالبحث عن الأجوبة. على الكتابة أن تَحمل رسالة ما، وإلا ما فائدتها؟! فَفِعل الكتابة ليس مُتعة تُمارس. وأما الكاتب والمثقّف عامة، فيجب أن يكون وَكيل تغيير، وإلا كيف سيحدث التّغيير إن لم يكُن بالحَرف؟ فالسيف والرمح والعصا والبندقية والمَدفع، لا تُحدث التغيير، بل تُحدث التدمير.

جميلة شحادة

كاتبة وتربوية فلسطينية من مدينة الناصرة

رأيك يهمنا