المَسرَح الجَماهيري.. "خَشَبَة" المُستَضعَفين، بِلا حُدود

المَسرَح الجَماهيري، مَسرَح المِنبَر، مَسرَح المضَّطهدين، مِن البرازيل وصولاً لكلّ بِقاع الأرض. مَسرَح آخر مِن اكتشافِ وتَطوير وتَقنين الفنّان المَسرَحي البرازيلي أوچوستو بوال، مِن هُناك حتى مَسرَح الحريّة في جنين.
عِندما تُصبِح الخَشَبة جَبهة
في زمنٍ قَطَّعت الحَربُ أوصالَنا كشعبٍ عاش عقودًا لم تتوقّف فيها الحروب، بين الحرب على الهويّة والحرب على الأرض، والحرب على وَصْل الرّحم ولمّ الشمل والعَودة لبيوتنا، والحرب على الكَلمة وإشهار العدل، والحقّ والتّعبير عن مَكنونات هذا الشعب الذي يقف صامدًا رغم كلّ أشكال هذه الحروب، وفي ظلّ صَمت العالم بأَسْره عمّا يحدث، تُلحّ الحاجة للتّعبير والتوثيق والصُمود، وفَتح جبهة مِن نوع آخر، جبهة فيها مِن الإبداع والتنفيس والتعبير والتحرير والعلاج والتغيير والتوثيق والتواصل، هي خَشَبة المَسرَح في كلّ حيّز مُتاح (ساحات، وشوارع، وحدائق، وسجون….)، لم تَعُد الصّالة ضَرورية للعَرض، رغم جدّية العَرض والتزامه بالقواعد الدراميّة المتعارَف عليها على مرّ العصور.
مِن كلّ مَكان نَعرض ونَصل الجمهور الذي يُعدّ الهَدَف الأول لهذا المَسرَح، فالجُمهور بهذا النّوع مِن المَسرَح هو فاعل متفاعِل متداخل متعلّم وصوته مسموع بقضايا تخصّه بالذات، وليست قضايا عامة، بل خاصة بهذا الجمهور، كما أسميته أنا "مَسرَح النّاس".
في بلادنا يَبرُز المَسرَح الجماهيري كمنصّة حيويّة وضرورية أكثر مِن أيّ رقعة في هذا العالَم، لما يعانيه شَعبنا مِن اضّطهاد وسياسة كمّ أفواه، واحتلال بكلّ معانيه الواقعيّة والمَجازية، إنّه ليس مجرّد فنّ للتّرفيه، بل يتحوّل إلى سِلاح الوَعي، ومرآةٍ تَعكس الواقع المُؤلِم، وملاذٍ للأصوات المكبوتَة.
في مواجهة فَوضى الحروب، يقف المَسرَح الجماهيريّ شامخًا، ليؤكد أن الإنسانية لا تَزال تَحتفظ بقدرَتِها على التّفكير، والتعبير، والمقاومة. ولهذا كان هذا النشاط الفنّي موقعًا مستهدَفًا مِن السُّلطة التي فرضت رقابةً شديدة عليه، ولاحقت فنّانيه، واعتقَلَت وأَسَرَت جزءًا مِنهم خوفًا مِن قوة تأثيره على صَقل الوعي، ورفض الرّضوخ للظلم بل مكافحته بالفنّ والنّضال.
حَدَث هذا مع مَسرَح الحريّة في جنين، وهو المساحَة الفنّية الوحيدة المُتاحة لأطفال المخيم والبلدات المجاورة، فاعتدت سلطات الاحتلال عليه ودمّرته وأغلقته وحاولت مَحو كلّ مَلامح الحَرَكة الفنّية المَسرَحية هناك…
كيف يَكون دَور المَسرَح فاعلًا وفعّالًا في مواجَهَة الحُروب، وخاصّة حَرب الإِبادَة في غزة؟
المَسرَح: تَوثيق الحَقيقة وفَضح التّضليل
في عَصر تَتَنافس فيه الروايات وتُبَثّ فيه الأكاذيب، يلعب المَسرَح دورًا حاسمًا في تقديم الحقيقة العارية. إنه يُعد وسيلة قويّة لـتوثيق قصص الضّحايا والنّاجين الشخصيّة، بعيدًا عن فَلترة الإعلام أو تَضليل الآلة الدعائيّة. من خلال تجسيد المعاناة الإنسانية على خشبة المَسرَح أو في الحيّز العام، يُصبح الجمهور شاهدًا مباشرًا على الفَظائع، مما يحرّك مشاعره ويدفعه للتفكير النقديّ في الروايات الرسميّة.
إِعادَة تَشكيل الوَعي وَكَسر جُدران الصّمت
الحروب غالبًا ما تُلقي بظِلالها على العُقول والنّفوس، مُسببةً حالة مِن الصّدمة والهَلع والتّعب النفسي. هُنا يأَتي دور المَسرَح الجماهيري في إيقاظ الضمائر النائمة وكَسر جُدران الصّمت. إنه يُمكّن الجمهور من رؤية الحرب ليسَ كأرقام وإحصائيات، بَل كـتجارب إنسانيّة عميقة ومُؤلِمة. يُسهم هذا التّفاعل العاطفي والفِكري في إعادة تَشكيل الوَعي الجمعيّ ويَدفع نحو التساؤل والاحتجاج.
المَسرَح كَفَضاء للمقاوَمة وبِناء الأَمَل
في خِضمّ الدمار واليّأس الذي تُخلّفه الحروب، يُصبح المَسرَح الجماهيري فضاءً للمقاومة الثقافية ومَنصة لتربية الأَمل ومَساحَة للتّعافي. إنه يُوفّر للمتضرّرين مِن الحرب فرصة للتعبير عن غضبهم، وحزنهم، ومخاوفهم بطريقة فنّية. كما يُشجع على الصُّمود والوحدة، ويُذكّر المجتمعات بقوّتها الكامِنة وقُدرتها على التّعافي وإعادة البناء، حتى مِن تَحت الرّكام. فهو وسيلة فعّالة للعلاج والتّشافي مِن خلال السّرد والمُشاركة والعَرض، فبَعدَ كلّ عَرض يتأمّل المؤدّي ويُعيد تَشكيل التّجربة مِن نقطة أكثر تقدّمًا نحو التّعافي مِن هَول ما حَدَث.
مَدّ الجُسور الإنسانية والدّعوة للتضامن
تُغلِق الحُروب الحدودَ وتُقسّم الشّعوب، لكنّ المَسرَح الجماهيري لديه القُدرة على مدّ الجُسور الإنسانيّة وتَجاوز هذه الحَواجز. مِن خلال عروضه، يُمكن للمَسرَح أن يَنقُل معاناة شَعب إلى شعوب أخرى، مُعززًا التّضامُن والتّعاطف العالَمي واستفزاز مَشاعِر العالَم مِن خلال أصواتٍ حقيقية وقِصَص واقعية. إنّه يُذكرنا بأن الإنسانيّة واحدة، وأن الأَلم في أيّ مكان هو أَلَم للجميع، مما يُلهم التحرّك والضّغط مِن أَجل إنهاء الصّراعات.
تحدّيات وصُمود، المَسرَح لا يَموت
رَغم التحدّيات الهائِلة التي تواجِه المَسرَح في زَمَن الحَرب، مِن مَخاطر أَمنيّة إلى نَقص المَوارد، فإنه يظلّ رمزًا للصمود والإبداع. المَسرَحيون، غالبًا في ظروف بالغة الصعوبة، يبتكرون طُرقًا جديدة لتقديم عروضهم، مؤكدين أن صوت الفنّ لن يُخمد. يُعطي هذا الإصرار رسالة واضحة بأن الرّوح البشريّة ترفض الاستسلام لليأس، وتُصر على التّعبير والبقاء.
المَسرَح، مَنبر لا يُقهر
المَسرَح الجماهيري ليس مجرّد وسيلة ترفيهية في أوقات السلم، بل هو ضرورة وجودية في أوقات الحرب. إنه يُجسّد قُدرة الفنّ على أن يكون سلاحًا غير عنيف لكنّه شديد التّأثير، يُواجه الظُلم، يُوثّق الحقيقة، ويُعيد إحياء الأمل، ويُشفي النُّفوس، وصوتٌ يدوي ويقول: يجب أن يَبقى صوت الضّمير البشري مدويًا، لا يَقهره صوت القنابل، لَنا ما لَنا وعَلينا ما عَلينا كلٌّ مِن مكانه، بالفنّ سنقاوم ونُصارع على الحياة بكرامة كما يليق بالإنسان أن يَعيش.