منذ أكثر من شهرين، أي منذ أن نزحنا من منزلنا الكائن بمخيم الشاطئ، وأغنية "دار يا دار يا دار" على لساني، لم تفارق ذهني. كنت أرددها في غالبية الأوقات، كنت أخبرهم دائمًا عندما يذكرون منزلنا والمخيم، "سلامتكم بالدنيا، رؤيتكم بخير أنتم وأعمامي وأولادهم، وأخواني وأطفالهم بخير، أهم شيء بالنسبة لي". كنت أخبرهم عندما كان القصف مستمرًا على المخيم، المال معوّض، ولكن والله إنه لقهر السنين، قهرٌ لا يوصف لطالما تعبنا وسهرنا ليكون بيتنا بأجمل حلّة ولطالما تعبنا باقتنائه وتوفير كل ما يلزمنا، ولطالما حزنّا عندما يكسر شيء غالي لدينا. بلحظة ما تعب العمر، تعب أكثر من 25 عامًا ذهب بلمح البصر، بلحظة عمارة مكونة من 4 طوابق بتكلفة 200 ألف دينار مع الفرش ذهبَ، ولكن العزاء على الأقل كانت ملجأ الأمان لأكثر من 20 فردًا، 4 عائلات كانت هنا أحلامهم، 8 من بينهم أطفال، كان مستقبلهم في هذا المنزل. فقد بتنا وإياهم بلا منزل لا معالم بتنا بلا مستقبل بلا ملابس بلا شيء، فقد بات منزلنا عبارة عن كومة ركام هو وأغلب المنازل في مخيم الشاطئ، لا معالم لا تفاصيل له أصبح شبيهًا بقطعة من البسكويت مُسحت بالكامل، وسقط أدراج الريح وكأنه لم يكن. بلحظة ما مشروع صغير كان ملجأ لأخواني الشباب في ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها القطاع، بتكلفة لا تقل عن عشرة آلاف دينار، ذهب أدراج الرياح.

 جرت العادة، عندنا، أن تقوم العائلة بتجهيز ابنتها قبل الزواج كنوع من العادات المصرية ومساندة لزوجها المستقبلي كون طفولتنا بدأت هناك (في مصر) فكانت العادة لدينا أن نشتري ملابس ومقتنيات أي عروس وتجهيز الأدوات المنزلية، وأدوات المطبخ بتكلفة لا تقل عن 7 آلاف دينار، الآن أصبحت لا شيء. جهازي الذي لطالما تعبنا بتوفيره وتجهيزه واختياره، بات تحت الركام، تفاصيل كثيرة لا يمكن الحديث عنها ولا يمكن وصفها. قهر طال بنا يا الله، حتى إخبار أهلي بتأكيد نبأ تدمير منزلنا بالكامل صعب، كيف لي أن أخبرهم أن تعب العمر ذهب أدراج الريح بلمح البصر؟  كيف لي أن أخبر أبي أن آخر التعديلات في منزلنا منذ 4 أشهر من أطقم الكنب، والجبص والديكورات قد دُفنت تحت الأرض؟ كيف لي أن أخبره أن تعب عمره كي تبني لنا منزلًا ولإخواني وأطفالهم كي ننعم بسلام، بات لا شيء؟ كيف لي أن أخبر محبوبتي الصغيرة (س) ابنة أخي، أن غرفة نومها باتت تحت الركام؟ كيف لي أن أخبرها بأن ملابسها وفستانها الزهري والنهدي والأصفر لم تعد موجودة؟ وكيف لي أن أحضّر لها خزانتها، فقد كانت تلح عليّ يوميًا في مدارس النزوح خلال نزوحنا بمدارس الأونروا بأن أحضّر لها خزانتها كي ترتب بعض ملابسها.  وكيف لي أن أخبر (س) و (ع) و (أ)، أن غرفة نومهم ذات اللون الزهري والأزرق التي لم ينعموا بالنوم فيها أكثر من أسابيع قد ذهبت؟ وكيف لي أن أخبر أبناء أخي (ل) و(ع)بأن حقائبهم المدرسية ما عادت موجودة، قد قهرنا الجيش وحرقها بالكامل؟ وكيف لي أن أخبر (ت) ذات الـ7 أشهر أن جهاز ولادتها وسريرها الصغير وغرفة نومها و"كروستها" باتت لا شيء؟ فقد تبخرت هي وشقتهم. وهل لي أن أخبر ابن أخي الصغير (ع) الذي لم يتجاوز العشر سنوات، أن حصالته التي كان يجمع بها تكاليف شراء جوال له كي يساعده في دراسته المدرسية قد ذهبت؟ آلاف من الأحلام في ذاك المنزل قد دُثرت تحت التراب، لكننا سنرجع بإذن الله ذات يوم لمنزلنا ولمدينتنا ولمخيم الشاطئ، وسنُعيد بناءها أجمل ما يكون. ولكن بالتأكيد لم تكن كما كانت، منازل المخيم دُمرت بالكامل، وإن تواجد منزل ولم يسقط فإنه غير صالح للسكن، فمعالم المدينة قد تغيرت، وأهلها والكثير.


 أرسلت الشهادة عبر مركز شؤون المرأة- غزة، في تاريخ 19.12.2023

تنشر هذه الشهادات بالتعاون مع جمعية السوار، التي تعمل منذ فترة على مشروع لتوثيق شهادات نساء فلسطينيات من غزة.

شاركونا رأيكن.م