لا أحد يختلف على أن للحرب تأثيرًا كارثيًا على حياة الشعوب؛ فهي تؤدي إلى فقدان الأرواح، وإلى الإصابات الجسدية والعجز والنّزوح والتشّريد والجوع والفقر وغير ذلك. فالحرب، مدمّرة للشّجر والحجر والبشر على حدٍ سواء. لكنّ ضررها على صحة النّفس يظلّ هو الأقسى والأصعب والأمَّر على مَن نجا من الموت، وبالذات على هؤلاء الذين تحوّلوا الى عجزة، وعلى المسنين والأطفال والنساء. مع العلم، أن هذا لا يعني أن الرجال لا يلحقهم الضرر النفسي كذلك نتيجة الحرب، وإنما الأمر يتعلق بالنِّسبة، وكذلك لأن المسنّين والأطفال والنساء عادةً ما يكونون من المدنيين العُزَّل، ولو أن التاريخ القديم والحديث، العربيّ والغربي، قد كشف لنا عن أن المرأة قد تجندّت للحرب الى جانب الرجل، ومع ذلك، ليس للحرب وجه أنثوي، كما كشف لنا كتاب الصحفية البيلاروسية "سفيتلانا أليكسيفيتش".  

ففي كتابها "ليس للحرب وجه أنثوي" الصادر عام 1985 تكشف سفيتلانا عن قصص لنساء سوفييتيات خُضن الحرب العالمية الثانية بمهن حربية مختلفة، ومع ذلك كشفت قصصهن عن إنسانيّتهن، وعن خوفهن من الدماء، وعن نزعتهن إلى التعاطف مع العدو، وعلاج الأسرى، واقتسام قطعة الخبز مع أطفال العدو، كسِمة بشرية أصيلة لديهن. لقد وصفت النساء الحرب بالرهيبة، حتى أن بعضهن رفضن التحدّث عنها ليجنبن أنفسهن الكثير من الألم النفسي والذكرى الأليمة، ولكيلا يتذكّرن قساوتها وما عانين من ويلاتها. ومن أهم ما قالته النساء في رواياتهن عن الحرب، إنهن حُرمن من إظهار هوياتهن كإناث، ومطالبتهن بالامتثال لصورة موحدة مذكّرة، كحلْق شعر الرأس "حلْقة رجال"؛ مع أنهن في سرد رواياتهن لم يغفِلن الحديث عن الجمال، والتزيّن، والحب؛ فهل هذا يشير الى أن المرأة قادرة على فِعل ذلك رغم كل ويلات الحرب؟  

كنتُ قد كتبت قصة بعنوان: "عروس في زمن الحرب" وتضمّنتها مجموعتي القصصية الصادرة عام 2018 وهي مستوحاة من حرب لبنان عام 2006، وعندما قرأتها إحدى الزميلات، أشارت عليّ إلى تغيير اسمها الى "الحب في الحرب"، وعندما استفسرت عن السبب، قالت: لا فرق بين الحبّ والحرب سوى حرف الراء. 

ياه يا عزيزتي! ليت الأمر كذلك؛ لكنّ الحرب تبعد عن الحب أميالًا وأميالا.

المرأة مثلما هي مخلوق رقيق، لطيف، والأكثر حساسية على الإطلاق، هو أيضًا قادر على الصبر والمَنح والاحتواء والتدبّر في الأزمات الى حدٍ ما. لكن هذا لا يعني أبدًا أنها امرأة خارقة، ولا يعني أنها ضدّ الصدمات، وبالأخص النفسية منها. فكيف يمكن لتلك المرأة الغزيّة، الأم، أن تظلّ متماسكة وسوية نفسيًا؟! وقد فقدت معظم أبناءها أو كلهم وزوجها نتيجة القصف؛ أو ما زالت تبحث عنهم أو عن بعضهم تحت الركام؛ أو ما زالت لا تعرف عن مكان وجود بعضهم حتى كتابة هذه المقالة؛ أو أنها تتنقّل بهم من مكان لآخر ولا تعرف استقرارًا ولا أماناً؛ أو أنها تحترق من الحزن على أبنائها الجياع، إن لم تحترق بنيران القذائف وغيرها من أسلحة الحرب الفتّاكة؛ أو وهي تموت حيرةً وتفكيرًا بكيفيّة تدبّر أمرها إن فاجأها مخاض الولادة وهي في طريق النزوح، أو وهي قابعة في خيمة لا تقي من برد أو مطر، أو خوفًا من أن يدفنوا أبناءها دون أن تودعهم أو دون أن تعرف مكان دفنهم، أو إن كانت أشلاء جثة أحدهم قد جُمعت كلها في قبر واحد.  

كيف للمرأة الغزية، الأم، الزوجة، الأخت، العمّة، الجدة...  وهي تعيش كوابيس الحرب اللعينة، أن تظلّ متماسكة ولا تشعر بمشاعر القلق والحزن واليأس والتعب والغضب؟!  وهي تشهد كل لحظة الفقد والفقدان، القتلى، والجرحى، والمشوهين، والخراب والدمار حولها؟! 

بمقالي هذا لستُ بصدد التطرق الى كيفية التعامل مع الصدمة النفسية لدى النساء ولا التفصيل عن أعراض المصابين بها، وإنما أردتُ تسليط الضوء على معاناة النساء في غزة اللواتي حتمًا هنّ مصابات بالصدمة النفسية، ومصابات بأجسادهن جراء الحرب؛ وإن خصصّت مقالي هذا للكتابة عن المرأة؛ فلا يعني أن الأطفال والمسنين في غزة هم أفضل حالا، وإنما فقط لأننا في شهر آذار الذي يقولون إنه شهر الجمال وشهر الثقافة وشهر المرأة، كتبتُ القليل عن المرأة الغزية. فقولوا لي بربكم، كيف سنحتفل هذا العام، عام 2024 بالمرأة في شهرها، وآلاف النساء في غزة يعانين الأمّرَ من المُر.

جميلة شحادة

كاتبة وتربوية فلسطينية من مدينة الناصرة

شاركونا رأيكن.م