فزّة - هَل سمِعتُم دَقّات قَلب "سوق الناصرة"؟

تَكسيرٌ... تحطيمٌ في أرواحنا وأجسادنا قَبْلَ أزقّة سوقِنا الذي استولى عليه الهُزال والضعف والشلل.

توقّفت شرايينه واحدًا تلو الآخر عن ضخّ الدّم إلى القلب ليتوقف نبضه وسماع دقّاته.

هل نَشهد اغتيال موروثنا العمرانيّ الفلسطينيّ بما يحمله من تراكُم صوتيّ، وبصريّ، وإنسانيّ، ومجتمعيّ؟  أم هو مشروعُ إبادتنا المستمر نحو تحقيق نبوءتهم "أرض بلا شعب" كي لا يبقى مَن يروي سرديّتنا.

كيف ابتعَدنا واغتربنا عن مكاننا الذي ولد فيه أجدادنا وأسلافنا؟ مَشوا على حجارته الصوّان الملساء التي سُرقت تحت رعاية المُحتلّ، وبَنَوا بيوتهم من حجارة جبال الناصرة التي سَكَنوها وحفروا آبارها وزرعوا حواكيرها ليعتاشوا من محاصيلها... فيما نجح المُحتلّ في زرع الشَتات في داخلنا والخَجل من جذورنا التي أصبحت تُذكّرنا بالهزيمة والفشل و"سقوط الناصرة"، بدل أن تذكّرنا بأمجادنا والمعرفة والعلوم التي أنتَجها أجدادنا.

نَحن الذين اختَرنا الطريق التحرّرية ورَفع مستوى وعينا، كَمْ طبقة مِن طبقات المقاومة علينا أن نَخوض؟ المقاومة المكانيّة؟ أم المقاومة المجتمعية؟ أم مقاومة الاحتلال الذي يبذل كلّ جهده لمَحو الهوية المعمارية والعمرانية الفلسطينية في مدننا وقرانا العربية الواقعة تحت هيمنته وسُلطته؟

ما هو دورنا في هذا المجتمع؟ مَن نحن؟ وماذا نفعل هنا في أرضنا؟ أليس أن نحميها؟ ألسنا حُرّاسها وورثتها؟ 

وفجأة، تُشكّل عملية تحطيم أبواب سوق الناصرة العزيز على القلب المحرّك الأساسي لظهور مبادَرة فاضَت وانتفضت مِن أعماق الأزقة المنسيّة والمهجورة والمخفيّة، تحوّلت المبادَرة من فردية بعنوان "فَزّة" إلى جَماعية تطوّعية شارك فيها أطفال وكبار وعائلات من جميع أنحاء فلسطين المحتلة أيام السبت مدّةَ ٣ أشهر على التوالي.  كُنت أنا وشريكي أول من أخرَج الفكرة إلى حيّز التنفيذ، وقد فَتحنا المجال للمشاركة المجتمعية، وبأيادينا جميعنا وبصوت واحد نقوم بهذا الرّد العمليّ على فعل التخريب والتكسير، تعبيرًا عن رفضنا الرضوخ للتّعنيف المتواصل وسياسة التّهجير والّتفريغ الممنهجة المتبعة تجاه السكان وأصحاب المصالح في البلدة القديمة وتحديداً سوقها (حيث إنها استمرارية لمشروع الناصرة ٢٠٠٠)، الأمر الذي تجسّد هذه المرة في التعدّي الصارخ على أبواب حوانيت السوق الحديدية المقفلة والصدئة بذريعة محاربة الجريمة و"البحث عن السلاح" والمخدرات داخل هذه الحوانيت.

هذه المُمتلكات إرثنا المجتمعي التراكميّ، وهي رأس مالنا الثقافي، ليست ملكَ فرد، وإنما ورِث كلّ فرد فلسطيني ما شارك أجداده في بنائه على هذه الأرض وليس فقط في هذه المدينة، إنه مُلك المجتمع وصانعيه وخلفائهم الذين بقوا ليحموه .... ولعلّنا إذا حميناه وحافظنا عليه يَحمينا من مخطط التهجير المُمنهج، مثل ما أنقذنا في الـ ٤٨ ومنع تهجير مدينة الناصرة بسبب شواهدها المعمارية العمرانية، لتتحول عملية الحفاظ على الموروث الثقافي الفلسطيني المهدد بالزوال أداةَ مقاومة.

فكيف لهذا المُجتمع، الذي تم تفكيكه، والمَجروحِ الذي شَرْخُه هو ذاكرته الحاضرة التي لا يمكن مَحوها، أن لا يفزّ ويقف وقفة واحدة ويصرخ صرخة من القلب نحو تثبيت وجودنا وحماية كلّ ما هو ناطق بشهاداته على تاريخنا وحضارتنا ومعرفتنا وثقافتنا؟ 

هنا اقتبس مقولة للمعماري المصري الراحل حسن فتحي: "إنه قَلقي على القريب العزيز الذي ظنَناه قد مات فسلّمنا بقضاء الله، وإذا بقلبِه ينبض ضعيفًا فَتَشتدّ بنا اللهفة. قد تكون إرادة المولى في أن يعود إلى الحياة".

وها نحن سمعنا دقاتُ قلبه الضعيفة وهو يلتقط آخر أنفاسه وفاضَت لهفة الناس وظهر انتماؤها للمكان وتوجّهَت للسوق لتساهم في ترميمه وصيانته وإعادة تأهيله العمراني، لعلّ هذا الواجب الوطني يعيد نَسج علاقتنا مع بعضنا ومع المكان المهمّش، ونستطيع أن نستعيد ثقتنا بموروثنا الفلسطيني الأصيل المهدد بالاندثار وضياع هويته ومَحوها.

ويبقى السؤال: هل محاربة الجريمة تكون بجريمة إضافية؟ وهل البديل عن تخبئة السلاح في السرّ والباب مُقفل تخبئتُه بالعلن والباب مفتوح؟ ومن أين يا ترى جاءت هذه الأسلحة؟ هل سقطت من السماء أم هناك من زَرَعها في مكانها ليأتي ويجدها وينقذنا ويقول لنا: "ها نحن ننظّف الناصرة من السلاح والعنف والجريمة"؟ 

مبادرة "فَزّة" كانت تحتاج فقط لمن يُشعل الشعلة الأولى ويُترجم الفكرة إلى فعل. حيث يهدف المشروع على المدى البعيد للمساهمة في استعادة مركز مدينة الناصرة التاريخي روحَه [ذات الإرث والنسيج العمراني الاجتماعي التراكمي، حامل قيمة ثقافية واجتماعية ودينية روحية ومعنوية]، من خلال تدخلات فنّية إبداعية مترجَمة إلى إعادة طلاء أبواب السوق مع الحفاظ على القِصة التاريخية لكلّ زقاق حيث حاولنا روايتها عن طريق اختيار ألوان مستوحاة من مجال المهنة والحرفة اليدوية، مثل: سوق المبيّضين الذي طلي بألوان النحاس، سوق الكندرجية بألوان الجلود، وسوق الأقمشة بألوان تحاكي الأقمشة.

نَجَحنا في طلاء نحو 90 بابًا تبرّع بتكلفتها أفراد في الداخل الفلسطيني والشتات، بالإضافة لتبرعات من الأوقاف المسيحية وأصحاب الأملاك الذين فرحوا عندما رأوا محلّاتهم مَدهونة ومُبهجة.

نطمح في المرحلة القادمة للتشبيك بين المبادِرات/ المبادرين الشباب المعنيّين بفتح محلات في السوق وأصحاب الحقوق فيها من مالكين أو مستأجرين محميّين لتسهيل المبادرات وتشجيعها. سوف ندعو أصحاب الحقوق لمَنح تسهيلات تُغري أكبر عدد ممكن من الشباب، وخصوصاً أصحاب المؤهلات المهنية، للانضمام إلى حركة العودة إلى السوق التي قد تفتح مجالات أكبر، مثل فتح مدارس للحِرف قد توفّر لأهل السوق حرفة أو مهنة (مثل ما كانت مهنة النجارة تُقدم من مدرسة دون بوسكو في السلزيان لكل ولد من الناصرة وحولها) مكمّلة  للحرف القديمة التي كانت في سوق الناصرة، ومنها: حرفة الأحذية، الحقائب الجلدية وكل ما يتعلق بالجلود، الخزف والفخار، صناعة السكاكين التي اشتهر سوقها باسم "سوق المواساتية"، صناعة الزجاج، الأزياء والخياطون، عودة النحاسين مثلًا إلى تصميم وصناعة أجسام إضاءة، وغيرها من صناعات يدويّة مميزة قد تعيد روح المدينة لنعيد إنتاج معرفتنا المحلّية من جديد.

وهنا أضيف: لا بأس من مراجعة ظاهرة الالتفاف الواسع حول مبادرة "الفَزّة" ودعم الجمهور واستحسانه بل وحماسه الواسع في الناصرة وخارجها. وأطرح تساؤلات: ما الذي يحرّكنا في الـ"فَزّة"؟ لماذا نَنفعل ويَنفعل الجمهور الواسع من هذه الظاهرة/المبادرة؟

في الـ "فَزّة":

·      عمل تطوعي جماعي للصالح العام لم تشهده الناصرة منذ ثمانينيات القرن الماضي، لتكون أول مرّة تتم فيها الدعوة لعمل جماعي من أفراد وليس من أحزاب.

·      خلق ثقة بالآخرين وبالمكان.

·      إيمان بالقدرة على التأثير على مستقبل/ مصير البلد.

·      تصحيح أخطاء مرحلة تاريخية كنّا فيها مفعولًا بهم.

·      إشراك أجيال صاعدة/ أطفال في عمليّة عطاء للمجتمع لم تُعط لهم الفرصة لذلك من قَبل.

·      هي فاتحة لمبادرات أخرى بالروح نفسها في مجالات أخرى.

·      استبدال جوّ اليأس والإحباط والخذلان العام في البلد بالأمل والفرح والبهجة.

·      استعادة الثقة بقدرات الأفراد على التأثير الإيجابي في الحيّز العام، بالذات في أزقة البلدة القديمة وأحيائها وسوقها الذي هو جوهر المدينة وأصلها، حيث عملية الحفاظ على مَظهره ونظافته واجب على كلّ فرد فلسطيني من المدينة وخارجها.

·      تنمية حسّ الانتماء والمسؤولية عند الجميع خصوصًا الأطفال واليافعين.

·      الاحتفال والاحتفاء بالموروث/ التِركة التاريخية التي حَظينا بها ولم نتقن حتى الآن الاهتمام بها والحفاظ عليها لكي تحافظ علينا وتُبقينا على أصالتنا.

·      سوق الناصرة والبلدة القديمة بشكل عام هي بديل المُجمّعات التجارية التي تشكّل معابد الأسرلة والعولمة والأمركة.

وهل نكون في هذا المشروع نزرع الأمل من جديد؟ هل نستطيع أن نستعيد ثقتنا بقدراتنا المحلّية كأبناء بلد حاملين في رؤيتنا الفكر التحرري نحو استقلالنا وحريتنا الكاملة من الاستعمار الذي حوّلنا إلى مستهلكين مجرورين وعبيد في حين نستطيع أن نكون فاعلين ومؤثّرين أحرارًا؟! 

رزان زعبي زيداني

معمارية فلسطينية من مدينة الناصرة، حاصلة على ماجستير إدارة وتنمية مشاريع ثقافية في المواقع الأثرية. أسست محترف "مزيّن" لحفظ الموروث المعماري في العام 2018، وشريكة في تأسيس "الدار" للإقامة الفنية المعمارية منذ شباط 2024، حيث قامت رزان وشريكها ظاهر زيداني بترميم وإعادة تأهيل معماري لبيت فلسطيني نموذجي يعود لأواخر القرن التاسع عشر.

رأيك يهمنا