ما الّذي قادَ المُؤرّخ التَوراتي زئيف ارليخ إلى حَتفِه في شمع بلبنان؟
لَربّما أثار دَهشة البعض، وربّما لا، خَبَر مَقتل عالم آثار إسرائيلي في قلب موقع أثري في لبنان، يقع في الوقت نفسه في قَلب القتال المُستَعر جزؤه في غزة وجزؤه الآخر في جنوب لبنان منذ هجوم 7 أكتوبر، أما الحادِثة فوقَعت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر مِن العام الجاري (2024).
عُرف زئيف ارليخ بتَماهيه الخالص مَع ما يسمى "أرض إسرائيل الكبرى"، وكرّس حياته كلّها من أجل إنضاجها وتعزيزها وتوظيفها في اقتلاع الفلسطينيين واستيطان أرضهم تحت يافطة "الوعد الإلهي". لقد وَصَل هذا المستوطن الليل بالنهار وهو يَعمل على توثيق المواقع القديمة في قرى وبلدات الضفة الغربية. وسَمَح له الجيش الإسرائيلي بزيارة المواقع الأثرية والتاريخية التي يصعب الوصول إليها، بما في ذلك في المنطقة المصنّفة "أ" التابعة للسلطة الفلسطينية، وقد استهوته -وِفق شهادته- بشكل خاص مدينة نابلس (بعد القدس)، فبحث في تاريخها وتقصّى أنظمة المياه الجوفيّة فيها. وفضلًا عن عمله كمحاضر في المَجال، وكمرشد سياحي في بقاع ومنعرجات الضفة الغربية (وهي من منظوره بلد الآباء التي يعبق في أجوائها عِطر الأولين مؤسسي ممالك إسرائيل) فقد نظَّم جولات للجنود والضباط، وأسس علاقات وثيقة مع كبار القادة العسكريين. كما عَمل ارليخ على تأسيس نواة لجمع المعلومات عن أي تحرّكات يستدعي رصدها على مستوى الأمن في الضفة الغربية.
إذن، في هذا السياق، وَصَل المُستوطن بزيّ عسكري على ظَهر مُجنزرة إسرائيلية إلى لبنان ليستكشف القَلعة الأثرية في شمع المستقرة فوق تلّة تطلّ على ساحل صور والناقورة. وتضم تلك القلعة مزارًا لشمعون الصفا الذي يقدّسه المسيحيون، ويؤمُّه الشيعة أيضًا لاعتقادهم بأنه جدّ الإمام محمد المهدي المنتظر.
كَشَفت تلك الزيارة التي انتهت بمَقتل الباحث عما يَعتبره البعض أنه مساعٍ خفيّة مع أنها تجري في العلن والخفاء. إذ نعاه زميله باحث أرض إسرائيل أرنون سيغال بقوله: "هذه هي رسالة جابو (كنية ارليخ) يجب إعادة إعمار خرائبنا (في لبنان وغزة) - يجب إعادة إعمار كلّ مكان شَهد على وجود اليهود بغض النظر متى كان ذلك، فإنه يجب بَعثه من جديد". ويؤكد سيغال أنه وفقًا للخارطة التي أعدها ارليخ بنفسه، فإنه توجد العديد من هذه المواقع في جنوب لبنان.
يُعلِمُنا سيغال عن أستاذه بأنه كان من أوائل رُوّاد الرحلات إلى الأردن. وأنه أَسرَّ له قبل عام عَن كيفيّة انتظاره مثل أَسد مَحبوس في قفص، أَمر السّماح لكتيبته بالدخول إلى لبنان عشية حرب لبنان الأولى، وأنه قام بإعداد خريطة حدّد عليها قبورًا ومواقع يهودية قديمة في المنطقة الواقعة بين الشمال والجنوب. وأشار إلى أن هذه المواقع تقع على حدود الليطاني وفي جنوب لبنان. وأشار إلى أن المفهوم الأساسي هو أننا نعود إلى دِيارنا".
وأكد سيغال أيضًا أن "ما كان فريدًا في جابو، هو أن جميع أبحاثه تنبع من قواعد لغة الهالاخا الصرفة. فبينما تناول سائر الباحثين دراسة "أرض إسرائيل" من زاوية أكاديمية بحتة، كان البحث بالنسبة لجابو يرتكز دائمًا على المصادر والتقاليد وأقوال الحكماء".
وكشف باحث آخر في ما يُسمى "أرض إسرائيل الكبرى" يُدعى يسرائيل شابيرا عن لقاء له ولجابو مع محافظ غزة العقيد (احتياط) دافيد حاخام، نُشرت تفاصيله في الموقع الحريدي "كيكار هشابات"، تحدث خلاله جابو بإسهاب عن "الأماكن المقدسة في غزة وأغنياء اليهود في المنطقة، وأظهر معرفة دقيقة بأسماء شوارع المدينة على نحو أثار دَهشة حاكمها". ولفت الباحث إلى إصدارهما المشترك بعنوان: "غزة إلى الأبد: تاريخ يهود غزة".
"بعد 7 أكتوبر بات من غير الممكن التسليم ببقاء عَدو على حدودنا يُصرّح جهارًا نهارًا أنه ينوي القضاء علينا، والأمر يستوجب أن نَرِثه" (أرنون سيغال)
على هامش الزلزال الذي أحدثه هجوم حماس المفاجئ في السابع من اكتوبر، نَشَر سيغال في آذار من العام المنصرم مقالة له بعنوان: "هكذا تتوسع حدود إسرائيل حتى الليطاني".
فقد قال بصريح العبارة إنه "بعد ما حصل في "سمحات توراة" فإنه ليس أمرًا غير منطقي الادعاء أنه على إسرائيل أن تُحرّر من أيدي "حزب الله" كامل المساحة التي تقع فوق الحدود الدولية حتى نهر الليطاني. في الواقع الجديد، ليس ضروريًا أن تكون يمينيًا حتى تفهم ذلك".
يبني سيغال ادّعاءه في المقام الأول على "توفّر إجماع ديني على حقيقة أن المساحة المعنيّة هي جزء من "أرض إسرائيل""، فضلًا عن البناء على قول (الزعيم الصهيوني يوسف) ترومبلدور الشهير بأنه "حيثُ يَمرّ المحراث هناك تكون حدودنا". ويتابع: "كما أنه في العَصر الجديد، مِن الواضح أنّه بات مِن غير الممكن التسليم بوجود عَدو على حدودنا، وبالتأكيد إن كان عدوًا يصرح جهارًا نهارًا أنه ينوي القضاء علينا، وببساطة يستوجب الأمر أن نَرِثه، أن نقضي عليه ونَقضِم من أراضيه. القَضم من أجل الاستيطان". وفوق ذلك كلّه، يشير الكاتب إلى أن الخطة التي قدّمها وفد الحركة الصهيونية إلى مؤتمر سان ريمو الذي انعقد عام 1920، اشتملت على تحديد نهر الليطاني باعتباره الحدود الشمالية لأرض إسرائيل، بل الولوج أبعد لغاية 40 كم شمال الليطاني كالحدّ الأدنى الضروري لتحقيق الوطن القومي اليهودي".
ووفقًا للكاتب، فإن مَن دفع بهذا الاقتراح هو الناشط الصهيوني شموئيل تولكوفسكي، حيث زعم أنه سيكون من الأسهل على المسلمين جنوب الليطاني التواصل مع المسلمين في إسرائيل، من أن يتواصلوا مع المسيحيين شمالي الليطاني.
حُكْم جَنوب نهر الليطاني كَحُكم شَمال غزة: الاحتلال بِغَرَض الاستيطان (أرنون سيغال)
في مَقالته، بَسَط رجل ما يُسمى "أرض إسرائيل الكبرى" رؤيته في ما يتعلق بالواجب القيام به على ضوء التطورات، مستشهدًا بمطالبات بعض السياسيين على شاكلة أفيغدور ليبرمان وبعض رؤساء المجالس المحلية في شمال إسرائيل بإخراج "حزب الله" مِن كامل المنطقة حتى الليطاني، وهو ما يَعني احتلال المنطقة. وقال أرنون سيغال إنه يجب مطالبة السكان اللبنانيين جنوبي نهر الليطاني بإخلاء منازلهم تمامًا مثلما تمّ حَمل السكان شمال قطاع غزة على النزوح جنوبًا. وأضاف: "وهكذا من الآن فصاعدًا سيفتح الباب أمام استيطان يهودي واسع النطاق في هذه المنطقة من البلاد".
ولتعزيز طَرْحه عاد سيغال ليستشهد بأقوال مُعلّمه وصديقه جابو الذي قال بهذا الصدد: "يجب اختيار موقع استيطاني لديه فرصة للنمو والتوسّع. يجب التأكّد مِن أن المواقع الاستيطانية المُختارة ستسير في نهاية المطاف نحو تأليف كتلة استيطانية، مع ضرورة توفير الغلاف الأمني لها". وشدد جابو على ضرورة اعتماد منطق لنشر الاستيطان. فالحلّ -من وجهة نظره- يجب أن يكون رسميًا لا أن يتم وضع عشرة شبان على إحدى التلال. "يجب التدقيق في ملكيّة الأراضي والتأكد من التسلسل الاستيطاني والمستوى الأمني والاستيضاح مَن هُم الجيران"، يقول، ويضيف: "علينا أن نتأكد مِن أن العرب الذين سيبقون في جنوب لبنان يدركون أن بقاءهم هناك مشروط بمواصلة التعاون معنا".
صحافي في هآرتس: تسلل مسيحانيّة السّامرة إلى جنوب لبنان يتسبب في مقتل الجنود بالمجّان (صحيفة هآرتس)
الصحافي الناقد في صحيفة "هآرتس" روجل آلبر عَنون مقالة له في 22 تشرين الثاني تطرّق فيها إلى مقتل الجندي (20 عاما) الذي كُلّف بحراسة المؤرخ التوراتي بقوله: "غور كهاتي قُتل نتيحة تسلّل مسيحانية السّامرة إلى جنوب لبنان وأيدينا ملطخة بدمائه".
افتتح آلبر مقالته بقوله إن "غور كهاتي رمز: هو شهيد الحرب الأول الذي يمكن القول إنه يمثّل حالة مؤكدة لجندي تم أُرسِل إلى موته بأمر عسكري دون أي علاقة بضرورات عملياتية أو عسكرية أو من أجل الدفاع عن دولة إسرائيل وسكّانها. لقد توفي أثناء قيامه بالواجب الذي ألقي على كاهله: أن يكون حارسًا شخصيًا لزئيف إرليخ؛ مستوطن يبلغ من العمر 71 عامًا من (مستوطنة) عوفرا وباحث في "أرض إسرائيل" الذي طمع بزيارة أثر يهودي خلّاب في جنوب لبنان، في قَلب منطقة القتال، باعتباره ضيفًا شخصيًا على رئيس أركان لواء غولاني العقيد يوآف ياروم". وخلُص آلبر إلى القول إن التكافل السرطاني بين المستوطنين والجيش هو الذي أدى إلى ذهاب ارليخ إلى جنوب لبنان ومَقتله، ووصول غور كهاتي إلى القبر". جدّ كهاتي وهو طيار حاصل على العديد من الأوسمة خرج في جنازة حفيده ضدّ عقيدة تقديس الموت الحاضرة في جنازات الجنود القتلى في الحرب الدائرة، حيث قال "إن أيادينا ملطخة بدماء غور والجنود الـ 800. لأننا لا ننهض ولا نفعل شيئًا ولا نصرخ كفاية! أنتم المسيحانيون وأنبياء الكذب تصرخون بأن إله الانتقام إلهنا، وترسلون أبناءنا إلى الذبح كالخراف".
استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].
إليزابيث طحان نصار
إعلامية وإذاعية من مدينة الناصرة