سَرديّة فِلسطين وشَرعيّتها: مُكتَسَبات قانونيّة فارِقَة يُجهِضُها خُذلانُ المجتمع الدولي
مِن أهم مركبّات نجاح حركات التحرر الوطني هي السردية (Narrative). الحرب على السردية ليست أقل أهمية من الحرب التقليدية لأنها تضفي الشرعية (Legitimacy) على القضية، وهذا ما استثمرت فيه الحركة الصهيونية قبل قيام دولة إسرائيل وبعدَه محاولةً سَحب بِساط الشرعيّة من تحت القضية الفلسطينية وسرديّتها. التناقض بين السردية الفلسطينية والإسرائيلية هو تناقض بنيويّ بحيث لا يمكن التجسير بينهما، لذلك كان لا بد لإسرائيل من ضرب معالم السردية الفلسطينية وشرعيتها، بدءًا مِن إنكار وجود شعب فلسطيني، وبالتالي تجريده من الحقّ في تقرير المصير (على تفرّعاته وأهمها إقامة دولة مستقلة)، وإنكار وجود دولة فلسطين ما يعني بالتالي عدم وجود احتلال (الاحتلال يعرّف بأنه احتلال دولة لأخرى)، وإنكار الهوية الفلسطينية الجماعية، وبالتالي تحويل الفلسطينيين إلى أفراد أو مجموعات بلا أحقّية سياديّة على فلسطين تاريخًا ومستقبلًا (وعليه يمكن تفكيكهم إلى كانتونات). من هنا نَبَعت أهمية وعد بلفور لكونه أول تصريح يخدم الشرعيّة الصهيونية على فلسطين ويَسلِبها من الفلسطينيين، وعلى الوعد بُني صك الانتداب على فلسطين عام 1922 (حيث تم اقتباس وعد بلفور في نصه)، وعليه بُني قرار التقسيم عام 1947، وعليه تم تأسيس دولة إسرائيل. كل مشروع وطنيّ بحاجة لسردية وشرعيّة.
كان عام 2024 مخضّبًا بدماء الشعب الفلسطيني جراء حرب الإبادة على غزة، لكنه عامٌ عادت فيه السردية الفلسطينية إلى نِصابها، وأصبحت قضية تحرر فلسطين حاضرة في مشارق الأرض ومغاربها. لكن إذا تعمّقنا بتحليل هذا التغيير، نرى أن نُصرة شعوب الأرض لقضية فلسطين ليست فقط لأن الحرب الأخيرة أوضَحت مَن الجاني ومَن الضحية، ولكن لكونها متأصّلة في مشروعية قضية فلسطين وحركات التحرر الوطني الفلسطيني. في تأصيل هذه الشرعيّة، كان هناك دور فعالٌ ومفصلي للقانون والقضاء الدولي الذي انتصر للقضية الفلسطينية، وأدّت قراراته بشكل تراكمي إلى إدراك، ومساندة ونصرة الحق الفلسطيني بعد أن تراجع هذا الدعم وكاد يندثر بعد اتفاقيات أوسلو في تسعينيات الألفية الماضية.
حجر الأساس كان في قرار محكمة العدل الدولية في قضية جدار الفصل العنصري سنة 2004 الذي قضى على السردية الإسرائيلية، وأقر مِن خلال مسوغات قانونية مُفصّلة راسخة في القانون الدولي بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه (أحد أهم الحقوق في القانون الدولي الحديث ما بعد الحرب العالمية الأولى ومؤتمر فرساي 1919)، إقرار حالة الاحتلال للأراضي الفلسطينية وإسقاط حجج إسرائيل بعدم وجود سيادة فلسطينية على أرض فلسطين قبل احتلالها وبَعده، ذلك إلى جانب إقرار عدم شرعية بناء الجدار ووجوب زواله لإخلاله بالقانون الدولي. بعد انضمام فلسطين عام 2015 إلى ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، وافقت المحكمة على التحقيق في ادعاءات فلسطين ضد الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الجنائي، وبعد ذلك أصدرت المحكمة (5 شباط 2021) قرارًا مهمًا رافضًا لادعاءات إسرائيل بأن المحكمة تفتقر للصلاحية على فلسطين (لأسباب متعلقة بتعريف الاحتلال ومكانة فلسطين كدولة مراقبة) ويقضي بفرض صلاحية المحكمة والتحقيق بكافة الجرائم الإسرائيلية المرتكبة على الأراضي الفلسطينية المحتلة (القدس، الضفة الغربية وقطاع غزة)، القرار ذاته الذي أتاح مؤخرًا إلى فتح تحقيق بالجرائم الإسرائيلية المرتكبة في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023، ومن ثم ولأول مرة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي إصدار أوامر اعتقال غاية في الأهميّة والأَبعاد ضد رئيس حكومة إسرائيل ووزير دفاعها. في المقابل أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا مفصلًا في بداية العام (26 كانون الثاني 2024) يرفض كل ادعاءات إسرائيل في كل ما يتعلق بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في غزة، ويُقرّ بوجود دلائل كافية أنها تنتهك القانون الدولي وترتكب (على الغالب) أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية، وهي جريمة "الجنوسايد"، وأكثر من ذلك أصدرت المحكمة ثلاثة قرارات تلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لإنقاذ الفلسطينيين الغزيّين. وفي منتصف العام (19 تموز 2024) أصدرت المحكمة نفسها قرارًا يعتبر ثورة قانونية في كل ما يتعلق باحتلال إسرائيل لفلسطين، يقضي بعدم مشروعية الاحتلال ووجوب إنهائه، ووجوب إخلاء المستوطنات وإعادتها للفلسطينيين والإقرار بأن السياسة الإسرائيلية هي سياسة فصل عنصري (كما كان الحال إبان فترة الأبرتهايد الجنوب أفريقي)، ويجب على كلّ دول العالم الموقّعة على ميثاق الأمم المتحدة مساعدة فلسطين في تحررها. أنصَفت كلّ هذه القرارات المفصلية القضية الفلسطينية، وأقرّت بشرعيتها ومصداقيتها وخدمت السردية الفلسطينية وبالتالي ساهمت في بلورة الرأي العالمي المساند لفلسطين، بل أكثر من ذلك المقاوم من أجل نصرة فلسطين (انظر المظاهرات المناصرة لفلسطين في عشرات دول العالم، وانظر إلى الحركات الطلابية المساندة بالذات في الولايات المتحدة).
بالرغم من هذه الإنجازات القانونية الجبارة، لم يستطع المجتمع الدولي تنفيذ هذه القرارات أو إجبار إسرائيل على الانصياع لها لازدواجية المعايير وهيمنة الولايات المتحدة على الساحة الدولية. تنفيذ قرارات الهيئات القانونية منوط بإرادة الدول السياسية، فالمحاكم لا تمتلك جيوشًا أو سلطة تنفيذية. تقوم المحاكم الدولية بدورها الطبيعي، وهو القضاء، والقضاء أنصف فلسطين بلا شكّ، لكن المجتمع الدولي المهيمن عليه خَذَلها. استمرار المنظومة الدولية المتّبعة في مجلس الأمن الدولي، صاحب السلطة التنفيذية للقانون الدولي وإبقاء حقّ النقض الفيتو للدول الخمس دائمة العضوية (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا والصين) خَذَلت العدالة الدولية وخَذَلت القضية الفلسطينية وهذا يجب أن يتغير. أصبح الفيتو الأمريكي بمثابة "رخصة للقتل والإبادة" بيد إسرائيل الدولة المارقة المُخلّة بالقانون الدولي بشكل ممنهج. يذكر أن الولايات المتحدة كانت قد استعملت حق الفيتو لصالح إسرائيل 46 مرة، إلى الآن، آخرها ضد قرار وقف إطلاق النار في 20 تشرين الثاني 2024، بالرغم من إمعان إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني في غزة "بالبث الحيّ والمباشر"، وبالرغم من إصدار أوامر لوقف إطلاق النار من قبل محكمة العدل الدولية، وبالرغم من إصدار أوامر الاعتقال من محكمة الجنايات الدولية. هذه حالة دولية ليس لها أن تستديم. كنت قد ادّعيت في مداخلة سابقة أن حرب الإبادة على غزة هي محطة فاصلة في التاريخ الانساني، ما بعدها ليس كما قبلها على مستوى محلي وإقليمي وأيضًا على مستوى دولي. عليه، العالم ما بعد حرب الإبادة على غزة بحاجة إلى منظومة عالمية جديدة تكبح جموح الهيمنات السياسية من أجل مجتمع دولي متوازن ومنصف وتضمن للعدالة القضائية اليد العليا.
د. ضرغام سيف
محاضر وباحث في القانون الدولي