دور المرأة في الحرب كما تُشيعه مقولة "ليس للحرب وجه أنثوي"
تُنهي المخرجة نادين لبكي فيلمها "هلأ لوين" بمقطع تقول فيه بصفتها راوية الفيلم: "حكايتي نسوانها بقيوا تيابنْ سود، وسلاحُنْ صلاة وورود، حَربُنْ بلا بواريد، وتكيبروا الولاد، حكم عليهُنْ الزمان يلاقوا طريق جديد"، وإنّ فيلم لبكي يأتي ليروي حكاية ضَيعة معزولة عما حولها، يعيش فيها أناس من طائفيتين دينيتين مختلفتين (مسلمون ومسيحيون) حالة من السلام، ورغمَ المشاحنات والاقتتال والعنف الطائفي الذي يشهده الوطن المحيط بالضيعة، إلا أنّ النساء في هذه الضيعة يُحاولنَ إبقاء حالة السلام فيها عبر استخدام طرق إلهائية لرجالهنّ سواء تمثّلت هذه الطرق باستقدام فتيات راقصات من خارج الضيعة أو وضع الحشيش لهم في طعامهم، وذلك في محاولة لتغييبهم عما يحصل حولهم في العالم الخارجي، فالنساء على طول محطات الفيلم يظهرهنَ بموضع الرافضات لحالة الحرب، حيثُ يُحاولنَ منع اندلاعها في الضيعة ببذل شتى الطرق والوسائل.
وإنّ موقف النساء من الحرب ومحاولتهنّ منع اندلاعها في فيلم لبكي السابق هو موقف يأتي بغرض عرض صورة معينة عن المرأة، تَظهر فيها وكأنّ علاقتها مع الحرب هي علاقة قائمة على الرفض والاحتجاج، لكنّ وضمن سياقات أكثر عمومية فإنّ السؤال الذي يَطرح نفسه هنا، هل حقاً يجوز فرض حكم تعميمي يتمّ عبره الإقرار بأنّ الرفض والاحتجاج هما موقف المرأة الدائم من الحرب، وكيفَ يُمكن تفسير هذا الحكم التعميمي الذي يأتي غالباً ليصف علاقة المرأة بالحرب في ضوء عوالم الترميز الجندري التي تقوم بتفسير العالم في ضوء التصورات عن الرجل والمرأة؟
وللإجابة عن الأسئلة السابقة، فإنّ سفيتلانا أليكسييفيتش تُحاول في كتابها "ليس للحرب وجه أنثوي" تكريس صورة المرأة في موقفها الرافض للحرب، حيثُ أنّها تَقوم في كتابها باستعراض مجموعة من الشهادات لنساء –من مختلف الجنسيات- تمّ تجنيدهنّ في مواقع عسكرية مختلفة إبان الحرب العالمية الثانية، وحاربنَ في جيوش دول الحلفاء.
تَقول أليكسييفيتش في مقدمة كتابها بأنّها حاولت من خلاله عرض الحرب من وجهة نظر أنثوية، كما تتذكرها النساء اللواتي شاركنَ فيها، حيثُ تُورِد بأنّها حاولت من خلال كتابها أن تروي الحرب كما عرفتها إدراكات النساء؛ كما استشعرتها حواسهنّ، كما شَعرتْ بها أجسادهنّ، وكما كوّنت انطباعاته عنها عقولهنّ وأذهانهنّ.
والملفت في مقدمة أليكسييفيتش هو حديثها عن كيفية إدراك المرأة وعقلها للحرب وأحداثها، فهي تُبيّن بأنّ الإدراك النسائي للحرب يختلف عن الإدراك الرجولي لها، وتورد –ضمن هذا الإطار- إنّ "الحرب النسائية" اشدّ رهبة من "الحرب الرجولية" الرجال يختبئون خلف التاريخ، خلف الوقائع، وحربهم تأسركَ من حيث هي فعل ومجابهة الأفكار، والمصالح المختلفة، أما النساء فتسيطر عليهنّ العواطف... إنّهنّ يتذكّرنَ شيئاً آخر، وبطريقة أخرى. إنّهنّ قادرات على رؤية ما هو مغلق أمام الرجال. وأكرّر ثانية، إنّ حربهنّ ذات رائحة ولون، بعالم مفصّل من الوجود".
وتستكمل حديثها عن كيفية إدراك المرأة للحرب وتُبيّن أنّ حديثها عنها واستذكارها لها يأخذ طابعاً مختلفاً، حيثُ تُورد شهادة من إحدى النساء اللواتي شاركنَ في الحرب تقول فيها: "أعطونا أكياساً قماشية فخطنا منها تنانير"، وشهادة لأخرى تقول فيها: "دخلت إلى مديرية التجنيد بفستان، وخرجتُ من باب آخر بسروال وبلوزة، وقصوا جدائلنا، وأبقوا على رؤوسنا غرة من الشعر..."، وشهادة لثالثة تقول فيها: "خلال سنوات ثلاث لم أشعر بنفسي امرأة. لقد تخشّب جسدي وتيبّس. بلا دورة شهرية، وبلا أية رغبات أنثوية. في حين أنني كنتُ فتاة جميلة...".
وهناك وجاهة يتمتّع بها حديث أليكسييفيتش السابق حول علاقة المرأة بالحرب، حيثُ يمكن تفسيره في ضوء مفهوم "الجندر" الذي يُفهَم على أنّه بنية اجتماعية تُساهم في تشكيل هويات الأفراد وحيواتهم، كما أنّها تُساهم في تَشكيل كيفيات إدراكهم لأنفسهم وكيفيات إدراك الآخرين لهم.
فمفهوم "الجندر" يقوم على فرضية مفادها أنّه بالرغم من أنّ الاختلاف البيولوجي بين الذكور والإناث ثابت نسبياً، إلا أنّ قناعات الأفراد والمجتمعات حول وضع الرجال والنساء تختلف طبيعياً بشكل كبير، وهذا الاختلاف يأتي نتيجة لاختلاف ثقافات هؤلاء الأفراد والمجتمعات واختلاف الأزمنة التي يعيشون فيها.
ويُمكن تفسير حديث أليكسييفيتش حول علاقة المرأة بالحرب ونظرتها لها بالقول إنّها علاقة طبيعية جداً، ففي غالبية الثقافات المجتمعية تُربى المرأة في وضع لا يتمّ فيه تهيئها للحرب، وللتعامل مع معطيات حياتها القاسية، فالنساء –في غالب المجتمعات- لا يتمّ تنشئتهنّ على احتمال حمل للسلاح أو العيش في ظروف قاسية كالتي تتطلبها وجودهنّ في حالة مشاركة في حرب.
إنّ أنماط التربية الرقيقة التي تنشأ النساء في ظلالها في مختلف الثقافات والتي تُهدى فيها الفتاة لعبة في شكل "عروسة" بينما يُهدى فيها الصبي لعبة في شكل "بارودة" أو "جندي يحمل بارودة" هي التي تُساهم في خلق انطباع في أذهان النساء حول الأدوار الجندرية التي لا بدّ أن يقمنَ بها خلال الحرب، وتُختزل غالباً في أدوار التطبيب ومساعدة الجرحى، وغيرها من الأدوار الوظيفية التي تبتعد عن الأجواء الحقيقية للحرب المتعلقة بحمل السلاح والقتل.
فرغمَ الوجاهة التي يحملها حديث أليكسييفيتش حول علاقة المرأة بالحرب، وكيفية نظرتها إلى أدوارها لها فيها، إلا أنّ النظرة المتعمقة في مقولة "ليس للحرب وجه أنثوي" التي حملها كتابها تَقود إلى أنّ هذه المقولة هي مقولة مليئة بالتحيزات الجندرية، فهي مقولة نشأت في إدراكات وأذهان الأفراد –ومن يينهنّ النساء أنفسهنّ- والمجتمعات نتيجة للوضع الدنيوي المهين الذي عاشت في ظلاله تحت سيطرة النظام الأبوي البطريركي الذي طالما ساد في الشرق والغرب، فهذه المقولة تنتمي إلى عالم الترميز الجندري الذي طالما حاول النظام الأبوي البطريركي إشاعته وتكريسه كنظام رمزي ترتبط فيه المرأة بصفات معينة تختلف كلياً عن صفات الرجل، فهو عالم تأتي الحرب فيه لتشير إلى الذكورة المحضة ولتُدلِّل على ما فيها من صفات الشجاعة والجدية والحماية والسيطرة والهيمنة والاستقلالية والتحدي والصلابة والمخاطرة وغيرها من الصفات التي تأتي الأنوثة على النقيض منها، حيثُ أنّها ترتبط في هذا العالم بصفات الضعف والخور والهوان وغياب الجرأة والإقدام وفقدان الشجاعة.
وإنّ أكبر دليل على إمكانية دحض ما تُحاول مقولة "ليس للحرب وجه أنثوي" إثباته بشأن عدم إمكانية مشاركة النساء في الحرب إلا ضمن أدوار جندرية محددة، هو أنّ الحربْ طالما وجد فيها نساء استطعن القفز على التحديدات المسبقة لأدوارهنّ الجندرية، حيثُ شاركنَ فيها وتمتعنّ بشجاعة بالغة وخضنها بإقدام وجرأة واندفعنَ ضمنها كما الرجال وأكثر. وربّما فإنّ الوجه الأنثوي الوحيد الذي يُمكن القول بأنّ الحرب طالما افتقدت إليه هو وجه المرأة الذي يَقدر على القتل ويكرهه، فكيفَ يُمكن لذلك الوجه الذي يُعطي الحياة ويُهديها ويحملها داخل بطنه ويرعاها، كيفَ يُمكنه أن يستسيغ يوماً أن يكون هو ذاته من يَسلبها وينتزعها من أصحابها عنوة؟!
الاحالات:
1 سفيتلانا أليكسييفيتش، ليس للحرب وجه أنثوي، ترجمة: نزار عيون السود، سوريا: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ط1، 2016، ص20.
2 المرجع السابق، ص21.
3 المرجع السابق، ص16.
4 كارول كوهن، المرأة والحرب، ترجمة: ربى خدام الجامع، سوريا: الرحبة للنشر والتوزيع، ط1، 2017، ص39-40.
5 المرجع السابق، ص49.
إسراء عرفات
كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة