بين التّطبيع والشَراكَة: قِراءَة في المَسار الثّقافي الفِلسطيني/ العَرَبي

في ظلّ التحولات السياسية والاجتماعية التي تَشهدها المنطقة، تعود إلى الواجهة مسألة العلاقة بين الثّقافة الفلسطينيّة ومحيطها العربي، وخصوصًا في ما يتعلقّ بالشّراكة مَع فلسطينيي الداخل (48) الذين لا يزالون يتشبّثون بهويّتهم رَغم الضّغوط. وهنا يُطرح السؤال: هل هذا التّعاون الثقافي هو شَراكة حقيقيّة؟ أم أنه شكل من أشكال التطبيع المغلّف؟
التّطبيع الثَقافي: المَفهوم والمَخاطر
يُقصد بالتطبيع الثقافي تلك العلاقة التي تُبنى بين جهات فنية أو فكرية، لكنّها تَخدم في جوهرها مشروعًا سياسيًا هَدَفه تليين المواقف، وتَسويق خطاب القبول بالآخر على حساب الحقوق التاريخيّة والعدالة السياسيّة. ويكمن خَطر التّطبيع في أنه يتسلّل من بوابة الثقافة والفن، ليمرر مفاهيمَ تسووية تُغفل حقيقة الظُلم والاحتلال، بل وتَعمل على تَذويبهما.
من بين أبرز مَخاطر التّطبيع الثقافي، أنّه يُساهم في تحييد الوعي، وإعادة تشكيله بما يتماشى مع مصالح قوى الهيمنة، فيُطلب من الطّرف الفلسطيني – بحجة الانفتاح – أن يتنازل عن روايته التاريخية، ويَقبل الآخر الإسرائيلي كما هو، دون أيّ اعتراف أو مساءَلة. وهذا ما يؤدي إلى خَلخَلة في البنية الثقافية الوطنية، وتآكل في منظومة القيم الرافضة للاحتلال.
الشَراكة المزيَّفة تَسقُط سَريعًا
قد يُسوّق لبعض المشاريع الثقافية على أنها "شَراكة"، لكنّها في الحقيقة لا تَعدو كَونها عمليّة فرض غير متكافئة، يتمّ فيها تَهديد الطرف الأَضعف – عادةً الفلسطيني – بقطع التّمويل أو التّهميش إن لَم يَقبل بالشروط المفروضة. تنهار هذه الشراكات الزائفة بسرعة لأنّها لا تقوم على الندّية ولا على احترام الخصوصيّة الوطنية، بل تضعف الموقف الثقافي العام وتؤدي إلى ردود فعلٍ معاكسة قد تصل إلى المقاطعة والمواجهة.
الحاجَة إلى شَراكة ثقافيّة عربية/ فلسطينية حقيقية
في مُقابل مَشهد التطبيع، تبرز ضرورة بناء شَراكة ثقافية فلسطينية-عربية متينة، خصوصًا مع فلسطينيي الداخل الذين بقوا في وَطَنهم بعد النكبة، وواصلوا حماية هويّتهم رغم محاولات الأَسرلة والمَحو. يشكّل هؤلاء قاعدة ثقافيّة صَلبة يجب دعمها، لا عَزلها.
لا يَخدم فلسطينيو 48 السياسات الإسرائيلية، بَل يَسعون جاهدين للحفاظ على انتمائهم الوطني، وهم بحاجة إلى احتضان عربي واضح، عَبر مشاريع ثقافية وفنية تَفتح لهم المَجال، وتمنحهم أدوات التّعبير دون الارتهان للمؤسسات الإسرائيلية.
ضَوابِط التّمييز بين التّطبيع والشَراكة
للتمييز بين التّطبيع الثقافي والشَراكة الأصيلة، لا بُد من طَرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية:
· ما هو هَدف المَشروع؟ هل يَدعم الحُقوق الفلسطينية؟ أم يروّج للتعايش غير العادل؟
· مَن يموّل المَشروع؟ وهل للتّمويل علاقة بجهات مشبوهة أو ضغوط سياسية؟
· أين يُنتج العَمَل؟ هل في بيئة فلسطينية حرّة؟ أم في مؤسسات تَخضع لشروط الاحتلال؟
· ما هي الرسائل التي يَحملها؟ وهل تُخاطب الوَجَع الفلسطيني بصدق؟ أم تلتف عليه بلغة ناعِمة مُريبة؟
تشكّل هذه العناصر وغيرها بوصلةً أخلاقية ومهنيّة لأيّ مثقف أو فنان يَرغب في المساهمة الحقيقية في القضيّة، دون الوقوع في فَخ التّطبيع.
مُقاطعة فِلسطينيي الدّاخل: خَطَر استراتيجي
أَخطَر ما يُمكن أن تقوم به المؤسسات الثقافية العربية هو مقاطعة فلسطينيي الداخل، بحجة "الشُبُهات". ذلك أن هذا التّهميش لا يؤدّي إلا إلى دفعهم نحو المؤسسات الإسرائيلية، تحت ضَغط الحاجة والغِياب العربي. وبهذا، تُصبح المُقاطعة سلوكًا تطبيعيًّا غير مباشر، لأنها تفرّغ الساحة مِن البدائل، وتُبقي المجال مفتوحًا أمام خطاب الهيمنة والتطبيع.
علينا أن نحتضن كلّ صوت حرّ، ونوفر للفنان الفلسطيني في الداخل بدائل واقعيّة وعادلة، تُغنيه عن القبول بشروط الآخر. وهنا، يُصبح المَشروع الثقافي العربي المقاوِم مسؤوليّة جماعيّة لا يُمكن التهرّب منها.
خاتمة: الثَّقافَة والفَن كَسِلاح مُقاوِم
الثقافة ليست رفاهية، بل سِلاح ناعم ذو فعالية عالية في تشكيل الوَعي العام، وفي توجيه الرأي الشعبيّ نحو الصمود أو الخضوع. لذلك، فإن كلّ مشروع ثقافي، سواء أكان فيلمًا أو مسرحية أو مهرجانًا، يجب أن يُفكّر به ضِمن هذا الإطار المُقاوم، لا كجزء من مشاريع "السلام الاقتصادي" أو التطبيع الفني.
في هذا السياق، لا يِمتلك المثقّف والفنان العربي تَرَف الصّمت، فالصّمت هنا ليس حيادًا، بل انحياز للطرف الآخر. عدم فعل شيء هو في الحقيقة فعل يخدم الطرف الآخر.
والرفض هنا هو قبول وتقبّل لشيء آخر.
والصمت هنا هو قول وفعل وقرار يخدم فقط بالاتجاه المعاكس.
لأن المعركة ليست فقط على الأرض، بل أيضًا على الرواية.
وإن خَسِرنا الرواية، خَسِرنا المَعركة.
