فَنّ الحَكي.. زَيت السّراج في عَتمة الإبادَة

يقودُنا ما نُعايشه يوميًّا مِن دمار ووجَع وقهر ومتابَعة يوميّة لفظائع هذا العالم العَجيب وتسارُع الأحداث فيه، لفقدان التّوازن النّفسيّ والعقليّ حدّ الجُنون، إذ تتجاوز الفظائع قُدرتنا جميعًا على استيعابها أو فهمِها وهَضمها، فما بالُنا بِوَقعها على أطفالنا، وبهذا يُصبح واجبنا هنا مُحاولة حماية تلك العقول البريئة، إنّ توفير الحماية النّفسيّة للصّغار ضرورة ومهمّة كبيرة إلى جانب حمايتهم الجسديّة.
أودُّ أن أشير -إلى جانب الأنواع الكثيرة والأدوات الوَفيرة من وسائل تعزيز الحصانة والحماية النّفسيّة- لدَور سَرد القِصَص والحكايا في تمكيننا وأطفالنا مِن مواجهة صعوباتنا وأزماتنا، والتأكيد على استخدامها كأداة تَفريغ وتَنفيس وإنتاج مَعرفة وتكوُّن شَخصيّ، خاصّةً في ظلّ الأحداث المحيطة بنا، حيث تبرز القصص ودور راويها (رواتها) مِن حكواتيين أو حَكّائين (ولا أقصد هنا بالضّرورة الرّاوي أو الحكواتيّ المتمرّس أو المحترف وإنمّا مَن لَدَيه المُرونة والشّغف لفن الحَكي – حَكوَجي – كثير الكلام طليق اللّسان وليس ثرثارًا) كأحد أهمّ الأدوات والوسائل العِلاجيّة، لا بل وشكل مِن أشكال المقاومة والصّمود الهادئ والوسيلة الأصدق والأعمق لفهم العالم حولنا، وأداة بقاء ومداواة لجروح الأرواح الصّغيرة العاطفيّة في زَمَن الإبادة الذي أفقَد أطفالنا القدرة على التّمييز بين الحلم والكابوس.
فعند مواجهتنا لأسئلة طِفل يسأل: لِماذا سَقَط البيت في طمرة؟ ولماذا ضُرِب علينا صاروخ؟ لماذا يحاربوننا؟ كيف يمكنني أن أعطي طعامًا وألعابًا لأطفال غزّة؟ هل انتهت الحرب وتوقّفت الأصوات؟. لا ينتظر الطّفل هنا منّا تحليلات سياسيّة وإجابات منطقيّة وشرحًا وفيرًا لمجريات الأمور.. بل يَحتاج حضنًا يضمه ويحتويه وصوتًا يطمئنه: "إنّ الأمل لا يزال موجودًا وإنّنا لا نَزال هنا ولدينا المَقدرة على التّعامل مع هذا "...
تأتي قصص الأطفال وحكاياهم وكتبهم هُنا (وطبعًا القصص التي نخترعها ونؤلّفها لحظيًّا قد تكون نافعة وناجحة جدًّا حيث نُحضر أبطالاً مغايرين ليُخبروا طفلنا ما نَوَدّ أن يسمع ويعرف)، كضرورة حيويّة وإنسانيّة لتدعم مرافقتنا وعملنا مع الأطفال في محاولة للتّشجيع وبثّ بصيص الأمل لغدٍ أفضل وأكثر أمنًا، حيث تُخاطب الحكاية الطّفل بلغة الخيال التي يحبّها، ومِن خلال الخيال وتفعيل المخيّلة يمكننا المساعدة في إعادة ترتيب فوضى الأفكار تجاه الأحداث التي يراها ويسمعها، ونستطيع هنا تمكينه من أدوات ليفهم ما يصعب فهمه، فربّما يتبنّى سلوك أحد أبطال القصّة، أو ربّما يُخبر البطل بأنّه لو تصرّف بطريقة أخرى لكان أفضل له، وفي هذه الحالَة لَهُما؛ للبطل والطّفل معًا، نكون قد قدّمنا له وسيلة للمواجهة وتعزيز الحصانة باحتواء المشكلة، ووسيلةً أكثر ليونة مِن محاوَلات الهروب التي نعتمدُها في الكثير من الأحيان. فلننظر لِقَصّ القصص وسَرد الحكايا كأداة شفاء لنا وللأطفال، لفَهم أنفسنا وترميم ما قد اهتزّ فينا، وكَشَكل مِن أَشكال الدّعم النّفسيّ، خاصّة لمواجهة الخَوف والقلق والتّوتّر وحالات الفقدان، وأيضًا للتّعامل مع المَشاهد القاسية التي يَراها أطفالنا مهما حاولنا إبعادهم عنها. فإنّنا بذلك نفعّل طاقاتهم ونعزّز قدراتهم على التّعامل مع كل هذه الأشياء المخيفة.
هنا أستَشْهِد بالمجموعة القصصيّة "سلسلة قرانا الباقية فينا" كأداة للصّمود والحصانة، فمثلاً عندما تتزاحم الأفكار والتّساؤلات لدى أطفالنا حَول بلدنا، وأرضنا، ولماذا هذه الحروب؟ هويّتنا، جذورنا، وتزدَحم الوحشيّة الّتي يعايشها عالمنا، فمن الطّبيعيّ أن يتحوّل هذا إلى إحباط وضيق وفقدان ثقة وضعف وهشاشة في مبنى شخصيّاتنا وهويّتنا والكثير مِنَ التّداعيات، لكن باستخدامنا -على سبيل المثال- قصّة "رسّام السّجرة" لأطفالنا، وعندما نحكي لهم عن ناجي العلي وصديقه حنظلة وقرية السّجرة، فنحن نُعيد له بهذا تلقائيًا الشُّعور بالتّجذير، وبأنّ له تاريخًا وجذورًا، وشعبًا، وثقافة، وشخصيات، وفنًّا، وأدبًا.. إلخ.
نحن هُنا لا ننقل أحداث حكايا فحسب، بل نُساهم في مداواة وجع أجيال أو نكون كَحَفظة ذاكرة، ومحافظين على التّأريخ والرّواية التي نريد تحميلها لأطفالنا وترسيخها في عقولهم وأنفسهم وللأجيال القادمة كنوع مِن التّوثيق لقصّتنا.. أعتقد أنّ هذا يَبْعث ببعض النّور والأمل لأطفالنا ولنا أيضًا، وأؤكد هنا على "لنا ولهم"، ففي كلّ مرّة نقرأ لأطفالنا ومعهم أو نسمع معهم الحكاية نُعيد تَشكيل فِكرنا وشُعورنا ومواقِفِنا مِن جديد، ونرتّب بِناء أنفسنا مِن جديد، وهذا يَخدمنا في تطوّر وتطوير ذواتنا، وبالطّبع يَخدم أطفالنا عند حصولهم على نُسَخ معافاة وأفضل مِن أهاليهم (وهنا أتحدّث مِن تجاربي الشّخصيّة وأثر قصّ الحكايا وسَردها عليّ بشكل شخصيّ، وإعادة عمليّة البحث والصّقل والبلورة، الأمر الذي ينطبق على الكثير الكثير مِن التوجّهات من أهالٍ شاركوا أطفالهم سَرد القصص أو حضروا السّرد معهم وشاركونا بردود الفعل وتداعيات هذا عليهم).. فللقِصص دور كبير لا يقلّ مقدارًا عن أهمّيّة القصص العلاجيّة المستخدَمة في التّعامل مَع قضايا مِثل الخَوف، والفقدان وغيرها. حيث تُمكّننا -بدون جلسات علاج نفسيّ- من التّعامل مع ترجمة شُعور الحُزن وتسميته والتّعايش معه لا بل وشَرعَنة التّعبير عن هذه المشاعر لفهمها والتّعامل معها، خاصّة عند سردها بمسؤوليّة وبشكل مدروس يمكنها أن تصبح درعًا نفسيًّا حقيقيًّا، وتوفّر مساحة تعبير آمنة دون الحاجة للغة معقَّدة، فَمِن خِلال مُحاكاة الطّفل لشخصيّاتِ القصّة وأحداثها يَجِد وسائل التّعبير المناسبة له تلقائيًّا، وتساعده على بِناء أدواته لمواجهة ما يمرّ به، حيث تُبسّط القصّة الواقع المؤلم بطريقة يستوعبها رويدًا رويدًا دون أن تؤدّي لانهيار عالمه، وهذا بدلاً من حشوه بتفاصيل مفزعة ومريبة.
مِن شَأن قصّة جيّدة أن تَزرع في الطّفل القيَم الإنسانيّة التي نودّ جميعًا أن تُعَزَّز لدى أبنائنا مِن تَضامن وشجاعة وتعاطف وأَمَل. أداة بسيطة وأَثر عَظيم تمنح الطّفل الشّعور بالأمان والأمل. ثُمّ، لنشجّعه مثلاً على إكمال القصّة كما يرى هو أو كما يتمنّى أن تكون عليه.. أن يَضَع النّهاية التي يُريد، فبهذا نساعِده على تنمية حسّ السّيطرة على الأمور، ونُعزّز المَقدِرة الشّخصيّة في عالَم لا يُريد له هذا.
وفي النّهاية، تَعالوا نتذكّر أن نَحكي لأطفالنا قصصًا ونسمع قصصهم، نشاركهم أحلامهم وخيالاتهم، هذا أيضًا فِعل مقاومة، حُبّ، وصُمود.
القِصّة مِش رَح توقّف صاروخ ولكِنها مُمكن تِنقذ روح ونفس.. القصّة جزء مِن النّضال الواسع لأجل البَقاء.. نِحكي بالوقت اللّي بِدْهن إيّانا نُسكت ونِنسى أو نِختفي .. بْنِحكي لإّنه بَعِدنا هون، ولإنها القصّة والحكاية بِذَكرونا بالأجزاء الحيّة اللي لا زالت فينا.
لنَحكي ونَسرد ونَقُصّ كبارًا وصِغارًا لنُعيد حياكة النّسيج الاجتماعيّ والوطنيّ ونرمّم ما مزَّقته الحرب فينا. نحكي كبارًا للصّغار وبالعكس لنَضمن بناء أو ترميم الجسر بين الأجيال ونُعيد ترابطنا وانتماءنا. نقاوم بالقصّة وإن بَدَت الفكرة مبالغة للبعض لكنّها حقيقيّة، فربّما مِن أخطَر ما يسعى له المستعمر هو قَتل الخيال وخنقه وليس الجسد، فإذا نَجَح بإغلاق مخيّلتنا وحجزها لا حاجة له بقتل الجسد، فيكفيه تَجريد الرّوح بمنعها مِن الحلم والقدرة على الخَيال، دورنا كبير ومهمّ، أهاليَ ومُربيّن (وإن كنّا لا نعرف كيف علينا أن نتدرّب على هذا – البحث عَن كتب وقصص نوعيّة وعن أدوات وأساليب آمنة لسرد القصص والحكي لأنها مسؤوليّتنا) وحكّائين وكتّاب أطفال أن نقدّم لأطفالنا ما يريد الآخرون سكوتنا عنه، أن نقاوم النّسيان، أن نحفّز الذّاكرة، أن نقاوم تشويه الحقائق وتزوير القصص بقصص أخرى بديلة تُجذِّرنا وتثبِّتنا.

سمر أبو الهيجاء
مدرّبة في مَجال الرّعاية الذاتيّة لحُسن الحال - مرشدة يوغا وضحك ودراما في التعليم، ساردة قصّة، ومركزة مشاريع في مركز الطفولة.