بَطّوفيٌ في "ويست فرجينيا"!
في العام السادس بعد انتهاء الحكم العسكري على فلسطينيي الداخل، وفي العام الخامس بعد النكسة، انهيت تعليمي الثانوي في مدينة حيفا. نعم، هكذا أُجيب عندما كان يسألني أحدهم: متى أنهيت المدرسة الثانوية؟ فقياساتي تتبع عدد السنين التي تلت آخر حدثٍ أو أحداثٍ مهمة. حسنًا إذًا، أنهيت المدرسة عام 1972، وقد سكنت في حيفا، لصعوبة التنقل إليها من عرّابة البطوف حينها.
كان هناك العديدُ من الخيارات المتاحة للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي في "إسرائيل"، لكنني قررت المشي على درب اثنين من أخوالي، كانا قد سافرا إلى الولايات المتحدة للتعليم، ومكثا هناك. كان السفر للولايات المتحدة حينها خارجًا عن المألوف، ويكتسب من يتخذ هذا القرار، احترامًا، وتقديرًا، وشهرةً، تمامًا، كتلك التي نراها في المسلسلات السورية القديمة، حيث يُسافر أحدهم للتعليم خارج بلده، ويعودُ، كمن حصل على الأسفارِ كلّها، وعلى مالِ قارون!
بعد زيارتي الملحقَ الثقافي في السفارة الأمريكية في "تل أبيب" باحثًا عن قبولٍ في كليةٍ أو جامعةٍ للحصول على التأشيرة، تم قبولي في كلية (Shepherdstown)، ويا ليتني علمت حينها أن ترجمتها الحرفية، بلدةُ الرعاة، مع فائق المحبة والاحترامِ لرعاتنا الذهبيين والفضيين واليوبيليين، وما تريدون! 300 دولار، كانت في حوزتي، بعضٌ من أغراضي الشخصية، وقليلٌ من اللغة الإنجليزية، وتذكرة طيارة..... هذا كل ما أملك، قبل أن تودعني العائلة في مطار اللد، وداعًا وثقتهُ ببعض الصور، التي لم تستطع حينها التقاط دموع المودعين! إذًا، وجهةٌ مجهولة، في طائرةٍ لأول مرة، وفي النهاية في سيارة أجرة، للحرم الجامعي كطالبٍ أجنبي!
مكثتُ هناك تسع سنوات، أنهيت فيها اللقب الثاني في علم النفس، ودون مبالغةٍ، فإن المصاعب التي واجهتني، هي ما أود استعراضه، ووضعه بين يدي القارئ، لا سيما الطلاب منكم، كي تأخذوا عبقًا ولو قليلًا، من رائحة التعليم وأهميته حينها!
الانتماء والهوية
كان لهذا العنصر أثر كبير على مجمل حياتي العلمية واليومية هناك، ولا أخفيكم سرًا، كنت أستغله أيما استغلال، فخلال مكوثي هناك بين واشنطن العاصمة وبنسلفانيا، ومريلاند، وويست فرجينيا، التقيت بالعديد من الأشخاص... إن كانت لي مصلحةٌ في تثقيف مجموعةٍ ما حول هويتي، كنت أنتحل هوية العربي الفلسطيني الذي يسكن اليوم في دولةٍ اسمها "إسرائيل"، لأشرح لهم أسئلتهم الغبية حول الصحراء وركوب الجمال، والخيمة البدوية، فأنتشي بتمثيل بلدي. وعندما أتوجه للمراكز الحكومية، للحصول على ورقةٍ ما، أنتحل هوية الإسرائيلي، فتنهال عليّ عباراتُ المديحِ والقبول لأبعد الحدود، لدرجةٍ أنني حصلتُ على رخصة قيادتي من هناك مختومةً ومصدقةً دون حتى دخولي السيارة للامتحان العملي عندما سمعوا أنني من "إسرائيل"! نعم إنها نقمة ونعمة!
وعليه يا أعزائي، إياكم أن تخجلوا من هويتكم، وإياكم وأن تخجلوا من إظهار ثقافتكم، وإياكم وعدم استغلال كل المنابر لتتحدثوا عن نفسكم وهويتكم! نعم، كنت أنا قد أصبت وأخطأت، واستغللتُ محنة الهوية لدي، لكنني كنت أستغل كل الفرص التي تسنح لي للحديث عن بطّوفنا، وبطيخنا، وسهلنا.
العودة للوطن
عدت بعد تسع سنواتٍ لألتحق بجامعةِ القدس- أبو ديس، في فرع كليتها لعلم النفس في رام الله، كمحاضر، وكان لهذه التجربة الوقع الكبير عليّ، فما أجمل أن تعود محملًا بالعلم، تعطيه لأبنائك وبناتك الذين لا تربطك صلةٌ بيولوجيةٌ معهم! وبعد العديد من السنوات، عدتُ للجليل، لأقدم خدماتي التعليمية في العديد من المدارس والمعاهد في الجليل وغيرها.
فما فائدةُ العلم، إن لم تعد به لوطنك، ولشعبك.... فيا من تتعلمون خارج البلاد اليوم، ويا من لديكم مغريات الكونِ كلّه لتبقوا خارج هذه البقعة الجغرافية، عودوا، فنحن بحاجةٍ لكل كلمةٍ تعلمتموها!
التعليم والأخلاق
وهنا مربط الفرس، وختام مقالي! إن تجربة التعليم والاختلاط والعيش مدةَ تسع سنوات أكسبتني العديد من القيم والأخلاق والنظرة إلى الأمور ومفهوم الحياة بشكل لا تعوّضه أي تجربة أخرى، وهذا ما استثمرته خلال عملي كمحاضر في الجامعات والمؤسسات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والجليل على مدار أكثر من عشرين عامًا، على أمل أنني قمت بواجبي اتجاة طلابي وأهلي على أحسن وجه، وهذا شرف افتخر واعتز به ما دمت حيًا.
ومن هنا أقول ما يلي: إن ما أراه من مظاهرَ مجتمعيةٍ مختلفةٍ لم تكن موجودةً في ريعان شبابي، وأنا في عقدي السابع من العمر الآن، تظهر مشكلةً حقيقةً في دور المدرسةِ والجامعةِ كبوصلةٍ أخلاقيةٍ قبل أن تكونَ بوصلةً تعليمية! فرجائي لكم أن تهتموا بالأخلاق قبل الفيزياء، وبالاحترام قبل الكيمياء، وبالكرامةِ قبل الجغرافيا، وبحسن الجوار قبل الرياضياتِ، وباحترام الكبير ومساعدة الصغير قبل التربية الدينية.
أقول قولي هذا، وأنا أعتصرُ ألمًا، على منظومةٍ انحرفت بوصلتها قليلًا، لعلنا نستطيع أن نساهم في تصحيحها.
د. صالح كناعنة
محاضر سابق في الصحة النفسية في جامعة القدس-أبو ديس