"صدمة غزة": أعراض محتملة على الطلاب في المجتمعات المتضامنة
مع بداية العام الدراسي، سيذهب آلاف الطلاب في العالم العربي إلى مقاعدهم الدراسية محمَّلين بقدر كبير من الإجهاد النفسي الناتج عن الصدمات النفسية المتتالية الناتجة عن متابعة مشاهد الحرب على غزة أكثرَ من 10 أشهر متتالية. يمثل هذا الواقع تحديًا أمام انطلاق العام الدراسي الجديد، في ظل غياب سياسات واضحة للتعامل مع آثار هذه الصدمات، كونها تؤثر بشكل مباشر على حالة الأطفال النفسية والذهنية والعاطفية، وبالتالي على قدرتهم على التحصيل الدراسي، وعلى سلوكهم في المؤسسات التربوية.
ويمكن الربط بين درجة التضامن والتفاعل مع الحرب على غزة ومستوى هذا التحدي، وبخاصة المناطق التي تشهد مواجهات مباشرة مع الاحتلال، كما الحال في الضفة الغربية والقدس وجنوب لبنان وأجزاء من الأراضي السورية، وأيضًا المجتمعات التي تتابع أحداث الحرب على وسائل الإعلام وتتفاعل معها على المستوى الشعبي بشكل مباشر كما هو الحال في الأردن، كما أن هذا التأثير يمكن أن يمتد بسبب تغطية وسائل الإعلام المباشرة إلى أي مكان في العالم.
منذ السابع من أكتوبر 2023، يمكن تشبيه التغطية الإعلامية المتواصلة للحرب على غزة بأنها عملية نقل مستمرة للصدمة النفسية الثانوية إلى لأطفال الذين يتعرضون لمشاهدة حجم غير مسبوق من حوادث القتل والتدمير تطال الأسر الفلسطينية في قطاع غزة بمن فيها من أطفال، وبخاصة مع النقل المباشر للقصف والفيديوهات التي تصور الشهداء والجرحى، والحياة اليومية البائسة للنازحين، واستخدام مصطلحات الإبادة الجماعية والمجازر والتجويع المتعمد على نحو متزايد، وهو ما يوفر كل مقومات حدوث الصدمة النفسية الثانوية التي تتجاوز من تقع عليهم الصدمات النفسية المباشرة إلى من يتابعونها ويشاهدونها.
وإذا كان البالغون يواجهون صعوبة في مواجهة آثار الصدمة النفسية الثانوية، فإن الأطفال الذين لم تكتمل لديهم البنية النفسية والعاطفية يواجهون تحديات أكبر، تصل لمستوى التهديدات الوجودية، وذلك للأسباب التالية:
يضع الطفل نموذجًا يمكن توقعه للعالم الموجود فيه، ويَخلق اختلال هذا النموذج-عبر الأحداث المتتالية غير المفسرة أو غير المبررة- تهديدًا كبيرًا للطفل، ويشعره بانعدام الحماية والأمان.
يجعل عدم إدراك الطفل الكافي لجذور الصراع في فلسطين، وللبعد الجغرافي للصراع، من تخيُّل مروره بالأحداث نفسها أمرًا قريب الاحتمال، فعلى سبيل المثال قد يعتبر الطفل مدرسته أو بيته معرضين للقصف كما يحدث في غزة، وبالتالي يعيش التهديد بشكل مستمر.
التفسيرات السطحية لما يحدث في غزة، وتجنب الإجابة على أسئلة الأطفال العميقة وبخاصة ذات الأبعاد الوجودية والإيمانية، مثل: لماذا يسمح الله بقتل الأطفال؟ وهو ما يزيد حيرة الأطفال، ويرفع من مستوى تركيزهم على التفكير في ما يحدث بحثًا عن تفسيره.
تأثُّر الوالدين والأقارب والمعلمين بالأحداث، ودخولهم في أعراض ما بعد الصدمة، يربك الطفل ويفقده السند النفسي والمعرفي الذي يمكن اللجوء إليه للاحتماء به، وطلب التفسير لما يحدث.
مبالغة الوالدين في إظهار العجزَ عن تقديم المساعدة لغزة، تغذي الشعور نفسه عند الطفل، وتدفعه لتبنيه في مختلف شؤون حياته، وبخاصة تلك التي تمثل ضغطًا نفسيًا عليه، مثل عملية التحصيل الدراسي.
إشراك الطفل في فعاليات التضامن مع غزة، بما قد تحتويه من إعادة تمثيل لبعض المشاهد أو تقديم عروض لما يحدث خلال الحرب، دون الإعداد النفسي والعاطفي الكافي لها.
تُضاعف هذه التحديات من تأثيرات الصدمة النفسية الثانوية على الأطفال، وتدخلهم في حالة من إجهاد نفسي يطلق عليها: "أعراض ما بعد الصدمة"، تمثل عائقًا كبيرًا أمام الحضور الذهني والنفسي في المدرسة، وتؤثر بشكل مباشر على الأداء الأكاديمي ومستوى التحصيل، إلى جانب التأثير على العلاقات داخل المدرسة، وبخاصة بين الأطفال. ومن أهم ملامح ذلك:
انخفاض ملحوظ في مستوى الانتباه والتركيز والحضور الذهني خلال اليوم الدراسي.
انخفاض القدرة على التذكر والأداء خلال الامتحانات.
لتعبير عن مشاعر اليأس والإنكار وعدم التصديق.
كثرة الأسئلة ذات البعد الوجودي عن الأحداث في غزة.
ظهور علامات الحزن والاكتئاب على الطفل.
الخمول أو الأنزواء وعدم الرغبة في مخالطة الآخرين.
اللامبالاة وفقدان التعاطف مع الآخرين.
الغضب وسرعة الاستثارة واستخدام الحركة والعنف بشكل مفرط.
اضطرابات النوم والتحدث عن الكوابيس التي تحاكي الأحداث التي تابعها عن غزة.
الأعراض الجسدية مثل الصداع وآلام البطن وآلام الظهر والمفاصل.
يترافق مع هذه الأعراض اضطراب في العديد من المهارات التنفيذية والحياتية التي يحتاجها الطفل خلال الدراسة، ومن أهمها:
تنظيم المجهود والوقت والأولويات.
المبادرة.
حل المشكلات.
التخطيط.
المثابرة حتى الوصول للأهداف.
يعتبر التعاون بين الأسرة والمدرسة في الاعتناء بالأطفال الذين يعانون من أعراض ما بعد الصدمة أمرًا حاسمًا في الحدّ من تطور هذه الأعراض وتحولها لمشكلات نفسية أكبر.
يمكن للمؤسسات التربوية تنظيم جلسة مع بداية العام الدراسي تخصص للحديث عن الحرب على غزة، للكشف عن وجود أطفال قد يعانون من أعراض ما بعد الصدمة، كما يمكن إجراؤها من طرف أولياء الأمور.
وخلال هذه الجلسة، يسأل الميسر -الذي يجب أن يكون شخصًا يرتاح له الأطفال ولا يشعرون تجاهه بالتهديد- عن الأمور التالية:
الأسئلة التي تدور في أذهان الأطفال عن الحرب على غزة.
وصف المشاعر التي يشعرون بها.
أين تظهر هذه المشاعر في أجسادهم؟
كيف تؤثر الحرب على حياتهم المعتادة؟
ما الذي تعلموه من الحرب؟
ومن المهم جدًا خلال هذه الجلسات مراعاة الأمور التالية:
منح الأطفال مساحة كافية من الأمان في بداية الجلسة ليشعروا بالطمأنينة.
السماح للطفل بالتعبير عن آرائه وأفكاره ومشاعره بحرية دون نقد أو سخريةـ.
عدم إجبار الطفل على التعبير الشفوي إذا اختار السكوت أو البكاء، واقتراح وسائل بديلة كالرسم والكتابة دون إجباره عليها.
احترام الأسئلة التي يطرحها الطفل مهما كانت غريبة، وعدم الرد عليها إلا إذا كان هناك إجابة تربوية واضحة، وإلا يتم إبلاغ الطفل أن السؤال مهم، وسيتم توجيهه لمختص للإجابة عليه.
الحرص على عدم عرض أي صور أو أفلام عن الوقائع الصدامة التي تحدث خلال الحرب.
مناقشة ما تعلمه الأطفال من الصدمة بحرص، والانتباه للمعتقدات التي بدأ الأطفال تأسيسها، والتفاعل معها لتصحيحها عبر الأمثلة أو الحكاية أو الخبرات الشخصية دون توجيه أي نقد مباشر للطفل.
يمكن تكرار هذه الجلسات بشكل أسبوعي خلال الشهر الأول من بداية العام الدراسي، ثم تتقلص لجلسة أو اثنتين في الشهر، مع التنسيق مع الأهل والمختصين النفسيين في حالة أصبح واضحًا وجود أطفال وصولوا لحالة من الإجهاد النفسي الحاد الذي يحتاج تدخل المختص.
محمد رفيق أبو شرخ
كاتب ومدرب مختص في التربية الوالديّة