في الطريق إلى المدرسة: تعالوا نتحدث عن المعلّمة المثالية
تزخر الأدبيات بشكل عام، والبحثية منها بشكل خاص، بوصف المعلمة الجيدة و/أو المثالية. لقد تعددت هذه الصفات وتنوعت لتشمل مستويات مختلفة، بدءًا من ميزات شخصية المعلمة مرورًا بأشكال إدارة الصف وأساليب التدريس وصولًا إلى أشكال التواصل مع الوالدين. في هذا السياق، تعدت قائمة صفات المعلمة "المثالية" بضع عشرات، وشملت في ما شملت صفات مثل: ذات الصبر، ذات الرأفة، ذات الإلمام، ذات الإخلاص، ذات التواضع، ذات المرونة، ذات الثقة المرتفعة بالذات، ذات الانتماء، ذات روح الفكاهة، ذات قدرة التشويق وإثارة الفضول، ذات التواصل الفعال، ذات المهارة في استخدام الوسائل التعليمية، ذات التجدد في الفكر، ذات الشغف بالتعلم والتطور، وذات التمرس بالمادة وحاملة الرسالة والقائمة أطول.
ليس لدي أدنى شك في صحة ومصداقية هذه الصفات جميعها في تعريف "المعلمة المثالية"، وليس لدي ما يرفع أي علامة استغراب من ضرورة أن تتصف المعلمة بمثل كل واحدة من هذه الصفات. لكن في الوقت ذاته، لدي ادعاءٌ أن هذه الصفات هي ليست إلا الأعراض ولا تمت بصلة للمسببات.
لنستمع أولًا لهاتين المعلمتين تصفان تجربتيهما في مهنة التعليم:
تقول الأولى: "اخترت هذه المهنة لأنني كنت مفتونًة بها منذ أن كنت طفلة... لأنني أستطيع بها اكتشاف نفسي وفهم الآخرين... ساعدني حماسي الأولي في التغلب على الصعوبات التي واجهتها في بداية مسيرتي المهنية. منذ ذلك الحين اكتشفت أنني أستمتع بالتدريس، ويبدو أن الطلاب يستمتعون بتدريسي...
انتهى الفصل الدراسي الأول بسلام، وبدأ الفصل الثاني بنشاط وعزيمة وإصرار، وعملت بجد لرفع تحصيل الطلاب، وبالفعل نجحت، وزادت إحدى مجموعاتي بنحو 10 درجات، وبالتالي اتجهت الأنظار إلي: "رغم أن صفك متدنٍ أخلاقيًا وسلوكيًا!"، فكان جوابي بكل فخر أنني عملت بجد، ولم أنتقل من مادة إلى أخرى دون أن أطمئن إلى أن المادة الدراسية وصلت إلى جميع طلابي، وعملت على ربط المادة التعليمية بالحياة الواقعية للطلاب، بالإضافة إلى تكريس الوقت للعمل الفردي، كل هذه العوامل مصحوبة بالإصرار على أن الأمر ممكن وأن طلابي قادرون، وأن المعلومات والمهارات التي اكتسبتها في الكلية كافية لجعلي ناجحة".
أما المعلمة الثانية فتُحدِّث: "إذا أردت أن تعرف مشاعري، فسأخبرك أنني أفكر جديًا في ترك التدريس... لا أعرف كيف أشرح لك ذلك... تأتي بتوقعات وترى واقعًا مختلفًا... ما رأيته في المدرسة ليس ما تعلمته في الكلية، لم نشاهد الضرب... لا بد أنهم أظهروا لنا صورة الملاك وليس الحقيقة... عندما تأتي إلى المدرسة، ينظر إليك الجميع كغريب. لا أحد يستطيع مساعدتك. درسنا العديد من النظريات واكتسبنا الكثير من المعرفة، لكن لا شيء مما تعلمناه كان صحيحًا، حاولت كل شيء، ولكن في النهاية، استسلمت".
عدا عن أن هذين الخطابين يمثلان واقعين متباينين لحقيقة "شخصية المعلمة" التي نألفها، تلك المنشودة وتلك المرفوضة، فهما يعكسان بالأساس بالشكل الأوضح المسببين الأساسيين وراء تطور هذين النموذجين من المعلمات. لقد درج في الأدبيات البحثية تسمية هذين المسببين: نوع الدافع لاختيار المهنة، والكفاءة الذاتية.
يختار الفرد مساراته وسلوكياته وحتى ميوله تبعًا لدافعين مركزيين: داخلي وخارجي. أما الدافع الداخلي فيتعلق بالأنشطة والسلوكيات التي تحقق المتعة للشخص عند تنفيذها فلا هدف له منها سوى تنفيذها، مثل العمل مع الأطفال والتأثير على المجتمع والرغبة في مساعدة الآخرين. هذه الرغبة الداخلية في تنفيذ سلوك ما، هي ذاتها الهدف من السلوك. بمعنى أن تنفيذ السلوك ونتيجة السلوك مرتبطان ومتشابكان معًا. بالمقابل، يتعلق الدافع الخارجي بالأنشطة التي يتم تنفيذها من أجل الحصول على مكافآت منفصلة عن النشاط نفسه، مثل الراتب والشهرة، وتقدير الآخرين، والشهادات، وغيرها.
يعني ذلك أن السلوك النابع من دافع داخلي يتميز تلقائيًا بأنه سلوك دائم نسبيًا يُنفذ من أجل ذاته، ويتجسد مردوده في شعور الفرد بالإنجاز والسعادة والاكتفاء لإنجازه السلوك وتأديته الرسالة. بذلك، لا ينتظر صاحب السلوك النابع من دافع داخلي أي مردود خارجي ولا حتى الشكر والتقدير. بالمقابل، حدوث السلوك النابع من دافع خارجي مرهون أصلًا بالمكافأة التي تأتي عقب السلوك؛ بمعنى أن الشخص لا ينفذ السلوك إلا من أجل الحصول على مكافأة ما والتي قد تتمثل بأي شيء بدءًا من المال وحتى الحصول على التقدير والثناء. بموجب ذلك، قد يتوقف هذا السلوك عن الحدوث إذا ما توقفت المكافأة أو صغرت أو لم تعجبه.
أما بالنسبة للكفاءة الذاتية فهي تشير بشكل عام إلى اعتقاد الفرد العام والدائم أن لديه القدرة على التعامل بنجاح مع الظروف والمواقف العصيبة التي يواجهها، وأن لديه القدرة على تغيير هذه الظروف إلى حال أفضل. في مهنة التدريس تشير الكفاءة الذاتية إلى المدى الذي تعتقد فيه المعلمة أن لديها القدرة على التأثير على أداء الطلاب بغض النظر عن مستواهم التعليمي وعن دوافعهم للتعلم. تعتقد مثل هذه المعلمة أن لديها من المهارات والإمكانيات ما يكفي لتحدث تغييرًا إيجابيًا لدى طلابها، وفي الوقت نفسه تعي أن في البيئة المحيطة القريبة والبعيدة الكثير من الصعوبات والعراقيل التي تجعل أمر التغيير صعبًا جدًا، وتعي كذلك وفي الوقت نفسه أنه قد يتعين عليها أن تطور مهاراتها وتكتسب أخرى كي تستطيع أن تواجه مثل كل هذه الصعوبات المحيطة بها.
أعتقد أن هذين السببين-الدافع لاختيار مهنة التعليم والكفاءة الذاتية-يتكشفان الآن بوضوح في مثالي المعلمتين اللتين ذُكرتا سابقًا، ويُبرزان كذلك بشكل جلي ماذا يعنى أن تكون معلمةٌ "مثاليةً". تُبلغنا المعلمة في المثال الأول أن أمر اختيارها مهنة التعليم جاء من دافع داخلي، ففي هذه المهنة التي أعجبتها تستطيع أن تُعبر عن طاقاتها وتطور مهاراتها. لم تنتظر هذه المعلمة المكافأة الخارجية التي قد تتمثل في المال، وإنما ما انتظرته في الأساس هو إحساسها بالإنجاز. جدير بالذكر أنه من الوارد أن يجتمع كلا الدافعين لدى الشخص نفسه، بل ومن المحبذ أن يكون ذلك، لكن من المهم أن يغلب الدافع الداخلي دومًا على الدافع الخارجي. إضافة إلى ذلك وتبعًا له، أدركت هذه المعلمة أن تكون "معلمة جيدة"، معناه هو أن تدرك وتؤمن أنها قادرة أن تكون معلمة جيدة. هذا يعني أن اكتساب المهارات والمعلومات لا يكفي وحده من أجل ذلك، إنما الأهم هو أن تدرك المعلمة أنها بواسطة هذه المهارات والمعلومات قادرة على إحداث التغيير، وتعي في الوقت نفسه ما هي الصعوبات والعراقيل الموجودة أمامها وكيف يمكنها التغلب عليها. معنى ذلك، أنه إذا امتلكت المعلمة هاتين الميزتين فهي حتمًا ستطور كل الصفات التي ذكرت في البداية. معنى ذلك، أن مثل هذه المعلمة تعمل بمنتهى المتعة وبكامل الرغبة، وتعي أن عملية التعليم هي عملية متعبة ومضجرة ومملة بالنسبة للطلاب، وأن عليها التسهيل عليهم، وأن تضيف لهذه العملية المتعة والرغبة لدى طلابها.
لن أطيل الحديث عن المعلمة في المثال الثاني، لكن تخيل أن تقوم بعملك بدون رغبة أو بدون إرادة، وتخيل أن عملك يسبب لك الشعور بالعبء، والثقل والإرهاق والضغط، وبالتالي ما يسمى الانطفاء والتآكل. تخيل أن مثل هذه المعلمة قد تصل لمرحلة تتمنى فيها أن يتغيب طلابها أو على الأقل قسم منهم، وتخيّل أن تدعي مثل هذه المعلمة أن "أولاد اليوم" "غير" و"شياطين" ولا يريدون التعليم. تخيّل!!!
د. سامي جمال محاجنة
محاضر في مجالي التربية وعلم النفس في الكلية العربية الأكاديمية "بيت بيرل"