إسرائيل ومَشاريع تَفتيت سوريا
على الرغم من الطّابع غير الدَموي للحدث السوري الذي أطاحَ بالنظام الحاكم من دون قتال تقريبًا، وأدى لانهيار الجيش وفرار الرئيس، وسيطرة مجموعات "معارضة إدلب" وأبرزها هيئة تحرير الشام (نُواتها جبهة النُصرة/القاعدة برئاسة أبو محمد الجولاني) على مَقاليد الأمور، فإن معظم المتابعين والمراقبين يصفون الحدث المفاجئ بأنه زلزال عاصف ستكون له تأثيرات كبيرة على المعادلات الإقليمية والدولية، وتداعيات بعيدة المدى تؤثر على كلّ المتّصلين بالشأن السوري، بين هؤلاء دول وقوى نشطت فعليًا على الساحة السورية كالولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل وحزب الله، بالإضافة لدول الجوار. وإذا كان التكهّن بسير الأحداث المستقبلي صعبًا فَمِن السهل رؤية أن سوريا باتت على مفترق طرق مصيريّ يَفتح على احتمالات عديدة متناقضة، أفضلها أن تواصل سوريا السّير على طريق التحوّلات الديمقراطية التي تبني دولة الكرامة والحريات والمواطنة في سوريا الجديدة الموحَّدة، أو على العكس قد تستبدل طاغية بطاغية، أو تُفضي إلى الأسوأ وهو الدخول في حالة مِن التآكل والاحتراب الداخلي والتدمير الذاتي.
مِن بين القوى الدولية، ثمّة مَن هُم خاسرون بشكلٍ مؤكّد، وأبرزهم روسيا وإيران وحزب الله، وهناك مَن دَفعوا إلى تشكيل هذا الوَضع الجديد، ويسعون إلى استثماره لصالحهم وأبرزهم الولايات المتّحدة وتركيا وإسرائيل. وإذ تُحاول هذه الأطراف الاستفادة مِن التطوّرات إلى أقصى حدّ، يبرز دور إسرائيل بأطماعها التوسّعية والاستيطانية، وسعيها إلى أن تكون لاعبًا رئيسًا في رسم مُستقبل سوريا التي كانت حتى الأمس القريب ألدّ أعدائها.
لم تنتظر إسرائيل انجلاء الأمور حتى تحدّد اتجاهات سياساتها تجاه سوريا الجديدة، فسارعت إلى تدمير قدرات الجيش السوري، وهي مقدّرات للشعب السوري بالطبع، وليست للنّظام السابق، فدمّرت أكثر مِن 85% من الطائرات والمَطارات والمصانع العسكرية وأنظمة الدفاع الجوي، ومستودعات الأسلحة ومراكز الأبحاث. وسارعت إلى احتلال المَنطقة العازلة (أيّ الجزء السوري المحرّر مِن هضبة الجولان)، ثم وسّعت اجتياحها ليشمل أجزاء إضافيّةً في محافظات ريف دمشق والقنيطرة ودرعا بحيث باتت تتحكم بطريق دمشق بيروت مِن جهة، والطرق الداخليّة في لبنان وبخاصة طريق البقاع الجنوب.
تريد إسرائيل إذن تحويل سوريا إلى دولة منزوعة السلاح، ومنزوعة السيادة، وهي تدّعي بأن سيطرتها على الأراضي السورية إجراء مؤقّت خشية وقوع هذه المناطق في أيدي جهات متطرفة، لكنّ مِن يَعرف إسرائيل وتاريخها يدرك أنّ هذا "المؤقت" قد يتحوّل إلى دائم، وسوف يُستخدم دائمًا كأداة ابتزاز لانتزاع تنازلات سياسية واستراتيجية.
إلى جانب التّدمير والاحتلال الجديد، شَرَعت إسرائيل في مغازلة بعض مُكوّنات المجتمع السوري، وبخاصة الدروز والأكراد، فزعمت أنها معنيّة بحماية دروز سوريا وتجري اتصالات معهم من خلال دروز إسرائيل (اللافت أنها لم تُحاول ذلك من خلال دروز الجولان المتمسّكين بهويتهم العربية السورية والرافضين كلَّ سياسات الاحتلال وإجراءاته).
وتكشف هذه الاتصالات والنَزَعات عن مشروع إسرائيل القديم الجديد، المتمثّل بتفتيت دول المنطقة إلى دويلات وكيانات طائفية ومذهبية وإثنية، وهو مشروع سَبَق أن تبنّته، إسرائيل، وشجّعته عمليًا، في سبعينات القرن الماضي بدعم فكرة تقسيم لبنان إلى كانتونات مارونية وشيعية وسنية ودرزية، لكن هذا المشروع دُحر عمليًا من معظم فئات الشعب اللبناني بإسقاط اتفاق 17 أيار، ثُم تحرير الجنوب اللبناني.
تدعم إسرائيل أيضًا تقسيم العراق، سواء تجسد ذلك بتقسيم رسمي أو فعلي، وهي الآن أمام فرصة دعم خيار التقسيم في سوريا وتعزيز النزعات الانفصالية من خلال تخويف الأقلّيات من هيمنة الطائفة الكبرى (السُنّة).
لماذا تدعم إسرائيل خيارات التقسيم والتفتيت؟
لا تُخفي إسرائيل رغبَتها في تقسيم دول الجوار، بما في ذلك دعم فَصل سيناء عن مصر، وسبق لها أن دَعَمت انفصال جنوب السودان، والهدف هو إضعاف كلّ الكيانات الوطنية في ما تعتبره إسرائيل "المجال الحيويّ" لها. إلى ذلك لإسرائيل عدّة أهداف من مخطط التَفتيت، من بينها:
يجعَلُ وجود كيانات طائفية ومذهبية وعرقية في محيط فلسطين مِن وجود "دولة يهودية" أمرًا طبيعيًا منسجمًا مع محيطها، بل سيجعل إسرائيل القوة الرئيسة التي تتحكم في الإقليم دون أي منافس.
يَدفع تفتيت سوريا إلى سقوط الجولان كثَمرة سائغة في حضن إسرائيل التي ستطمع على الأرجح في قضم مزيد من الأراضي.
دخول الكيانات الطائفية في حروب ونزاعات سيُضعفها جميعًا، ويَصرف نظر شعوب المنطقة عن الخطر الإسرائيلي.
ستَدفع أي أزمات جديدة في المنطقة إلى تَهميش القضية الفلسطينية، وتُمكّن إسرائيل من الاستفراد بالفلسطينيين وتحويل قضيّتهم إلى شأن داخلي إسرائيلي لا يهم أحدًا.
تقويض النظام الإقليمي القائم؛ أي المنظومة العربية وعِنوانها جامعة الدول العربية، واستبداله بنظام إقليمي جديد تندمج فيه إسرائيل وتُهيمن عليه بحجة مواجهة الخطر الإيراني أو أي خطر آخر يجري افتعاله.
من المؤكد أن المشيئة الإسرائيلية ليست قدرًا محتومًا بالنسبة لشعوب المنطقة، فقد سَبَق للشعب اللبناني أن أفشل مخططات التقسيم، والشعب السوري قادر بالطبع على إحباط ذلك، حيث أن سوريا الحديثة قامت على رفض محاولات الانتداب الفرنسي إنشاءَ كيانات طائفية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ويَذكر الشعب السوري بكلّ فئاته بكلّ اعتزازٍ الثورات التي قادها سلطان الأطرش (الدروز/جبل العرب) وإبراهيم هنانو (حلب) والشيخ صالح العلي (جبال العلويين) وقامت كلّها ضدّ التقسيم ودعمًا للوحدة، كما أنّ الشعب الفلسطيني قادر على إحباط محاولات تصفية قضيّته إذا وحّد صفوفه وأحسن إدارة طاقاته الكفاحية، علاوة على أن مشروع التفتيت والتقسيم الإسرائيلي منافٍ لروح العصر ومصالح الشعوب، لكن هذه المخططات تظل خطيرة وبخاصة بسبب الإرث الثقيل للشعوب العربية من أنظمة الاستبداد التي فشِلت في كلّ شيء وبشكل خاص في بناء الدولة الوطنية الحديثة، دولة الحرية والازدهار والكرامة لكل المواطنين.
الصورة: لمعيان طوف - من مكتب الإعلام الحكومي.
نهاد أبو غوش
كاتب وصحفي، وباحث في مركز تقدم للسياسات وعضو المجلس الوطني الفلسطيني.