طُرف ونهفات في السِّيَر والمذكّرات

بعد جرعات الرّعب الّتي تجرّعناها جميعًا في الإطلالة السّابقة سنرفّه عن أنفسنا، في هذه الإطلالة، بمجموعة من الطُّرف والنّهفات الّتي من شأنها أن ترسم الابتسامة على الوجوه، رغم أنّ بعضها قد يُغيظنا. سنبدأ مع الطّفل نجيب محفوظ (1911-2006) ودعوته للثّورة وهو دون السّابعة! وسنختم مع عدنان الملوحي (1924-) وأبيه الشّيخ وفراريج الفقراء.

نجيب محفوظ يدعو للثّورة وهو دون السّابعة

كيف يكون ذلك؟! كيف يدعو طفل، ولم يبلغ السّابعة، للثّورة؟ إليكم/نّ الحقيقة كما يرويها هذا النّجيب. كان العنوان الأوّل في "أصداء السيرة الذاتية" لـ نجيب محفوظ (1911-2006) "دعاء"، وتحته يكتب: "دعوتُ للثورة وأنا دون السابعة".[1] يقصّ علينا أحداث ذلك الصّباح المشئوم-المفرِح كما يلي: "ذهبتُ ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسًا بالخادمة. سِرتُ كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عينَي كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقَيَّ شبه العاريتَين تحت بنطلوني القصير".[2] ما علاقة ذلك بالثّورة؟ إليكم/نّ السّرّ كما يرويه نجيب: "وجدنا المدرسة مغلقة، والفرَّاش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضًا".[3] يؤكّد الطّفل نجيب بعد سماعه الخبر: "غمرَتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة".[4] إضافة إلى الفرح كانت لنجيب أمنية: "ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد!".[5]   

نجيب محفوظ

المَرَضُ يفوز بجميل الذّكر  

لسوء حظّ الطّالب نجيب محفوظ لم يستجب الله لدعوته ولم تدُم الثّورة إلى الأبد! انتظم في المدرسة ويبدو أنّه كان يسقط في الامتحانات أو في بعضها. وجاء الحدثُ المفصليّ في حياته كما يروي: "في صباي مرضتُ مرضًا لازمني بضعة أشهر. تغيَّر الجو من حولي بصورة مذهلة، وتغيَّرت المعاملة".[6] ويأتينا نجيب بتفاصيل التّغيير قائلًا: "ولَّت دنيا الإرهاب، وتلقَّتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني، وأبي يمر عليَّ في الذهاب والإياب، وإخوتي يُقبلون بالهدايا".[7] وإلى جانب هذا وذاك: "لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات".[8] هذه الحادثة والمعاملة التي حظي بها هذا الطّفل أدّتا إلى "خلق" نجيب جديد، ويؤكّد في ذلك: "ولمَّا تماثلتُ للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم. عند ذاك خُلق بين جوانحي شخص جديد. صمَّمتُ على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة. إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة؛ فلْأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء. وجعلتُ أثِب من نجاح إلى نجاح، وأصبحَ الجميع أصدقائي وأحبائي".[9]ويخلص إلى القول: "هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي!".[10]

حَظِيَ المرض بجميل الذّكر من الطّالب اللبنانيّ مارون عبّود (1886-1962) أيضًا، وهو الّذي عانى الأمرّين في المدرسة.  يروي في "أحاديث القرية": "وفي الثامنة عشرة من عمري انتشرت الحمى في المدرسة فكانت لنا فرصة مرفع في شباط".[11] ويجزِم في خصوص المرض والفرصة: "والتلميذ يرحب بالطاعون إذا كان يعطي فرصة".[12]

مارون عبّود

الطّفلة هدى شعراوي (1879-1947) تمنّت المرض، وكانت فرحتها عظيمة عندما كانت أوّل من أصيب بمرض الدنج في المنزل! لم تفرح، كما الطّالب مارون، لأنّها ستحظى بفرصة من المدرسة. لا لم يكن هذا هو السّبب! كان لتمنّيها المرض "علاقة سببيّة" بكونها أنثى! كان السّبب، كما تقول: "تفضيل أخي عليَّ سواء من جانب والدتي أو أهل البيت جميعًا".[13] قاست هدى من هذا الشّعور، وشاركت زوجة أبيها الّتي كانت تثق بها بهذا الأمر طالبة منها: "أن تفسر لي حكمة تفضيل شقيقي عليَّ [...] أنا الأكبر أنا الأولى، ويجب أن يكون نصيبي أوفر منه ومركزي أعلى من مركزه".[14] علّلت زوجة أبيها الأمر بأنّ أخاها ذكر وهي أنثى، وبأنّه سيُحيي اسم أبيه ويفتح بيته، أمّا هدى فستذهب إلى بيت الزّوجيّة وتحمل اسم زوجها. إضافة إلى ذلك قالت لها: "إن أخاك ضعيف البنية، لذلك يخافون على صحته ويعطفون عليه، أما أنت فقوية سليمة الصحة".[15] بعد سماع هذا التّفسير تكتب هدى: "وقد تمنيت بعد ذلك أن أمرض لأتساوى معه في حب والدتي".[16] يا للرّوعة، تحقّقت أمنيتها فمرضت! تروي هدى: "وتصادف أن تفشت حمى الدنج في البلد، وكنت أول من أصيب في المنزل، ففرحت بهذا الاختبار ولازمت الفراش، وكم تأثرت من اهتمام والدتي بمرضي وانزعاجها منه؛ لأنها لم تتعود أن تراني مريضة، وأمرت في الحال بإحضار طبيب العائلة".[17] لكن، يا فرحة ما تمّت! دامت فرحة هدى يومين أو ثلاثة فقط! وجاء النّحْس! يا للتّعاسة! وما مصدر النّحس وما سبب التّعاسة؟! تقول هدى: "بعد يومين أو ثلاثة أصيب أخي بالمرض نفسه، فقام أهل المنزل على قدم وساق، ورأيت الأطباء يدخلون غرفتنا قاصدين فراش أخي، ثم يقومون بفحصه ويغادرون الغرفة دون أن يلتفتوا إليَّ، رغم أن فراشه كان بالقرب من فراشي".[18] وتصف مشاعرها مؤكّدة: "وقد أثر في ذلك كثيرًا، وارتفعت الحمى من فرط تأثري، ولكن أحدًا لم يهتم بأمري إلا بعد أن ازدادت حالتي سوءًا".[19] كان وقع هذه الحادثة في غاية السّلبيّة على هدى، لكنّها لم تتنازل عن حقّها في المساواة مع أخيها. لم يسعفها المرض كما تمنّت، لكنّها لن تتنازل. ستبحثُ عن طريقة أخرى، وقد وجدَتْها وهي في سنّ التّاسعة. ذكرنا أنّ أخاها كان ضعيف البنية، لذلك نصحهم الطّبيب "أن يشتروا له مهرًا صغيرًا "سيسي" ليتعلم ركوب الخيل – وهو إذ ذاك في السابعة من عمره – لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودًا كبيرًا".[20] تكتب هدى: "فطلبت أنا أيضًا أن يشتروا لي مهرًا لأركب مثله".[21] وهنا بدأت عمليّة أخذٍ وردٍّ بين الطّفلة وأهلها، حجّة من أهلها وحجّة منها! تقول: "وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات".[22]لم تكن هدى بحاجة إلى شخص يرافع عنها، بدأت بمرافعة ذاتيّة مفادها: "دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلًا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها".[23] فشلت والدتها في إقناعها بالعدول عن فكرتها. ماذا ستفعل؟ هنا قامت الوالدة بإدخال هدى في معضلة يصعب اتّخاذ القرار فيها! تكتب هدى في ذلك: "ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشّديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان [...]".[24] نجحت الأمّ على المستوى "التّكتيكيّ"، لكنّ هدى، ابنة التّاسعة، نجحت على المستوى "الإستراتيجيّ" في هذه القضيّة، ففي مثل هذه القضايا هنالك المكشوف وهنالك المخفيّ، هنالك المحكيّ وهنالك المُضمَر، وكان في جعبة هدى ما هو مخفيّ ومُضمَر! فتكتب عمّا جال في خاطرها بعد أن أكّدّت لأمّها أنّها فضّلت البيانو على الحصان كما يلي: "قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلّما أردت".[25] يحيا العدل!

هدى شعراوي

هل من أملٍ؟!

هل من أملٍ في تغيير نظرة المجتمع العربيّ إلى الإناث وفي التّعامل معهنّ؟! الأمل آتٍ لا محالة. في العام 1972، أي بعد نحو قرن من الزمان على ولادة هدى شعراوي (1879-1947)، وُلِدَت أختٌ لها في بلدة اللقيّة الفلسطينيّة في النّقب. وما سرُّ الأمل في مجيئها، ففي مجتمعها وعشيرتها كما في أنحاء متشعّبة من العالم العربيّ الواسع تُعتبر ولادة الطّفلة جريمة تقترفها الوالدة؟! نعم، تمنّت والدة هذه الطّفلة، بعد أن عرفت أنّها أنجبت بنتًا وكانت بمفردها في المستشفى، أن تموت هذه البنت لكي تستطيع إخبار والدها وأمّه-حماتها بـ "إنّه كان ولدًا ولكنّه مات".[26] هكذا كانت ستنجو هذه الأمّ من فِعلتها الشّنيعة المتمثّلة بولادتها بنتًا! وكيف للأمل أن يموت! عاشت الطّفلة وكانت لم تُسَمَّ بعد، فالوالد هو الذي يمنح المولود الجديد اسمه. وصل الوالد ووالدته ووالده لزيارة الأمّ ومولودها الجديد في المستشفى، وكان وقع الخبر قاسيًا لم تحتمله الجدّة بعد رؤية البنت المولودة! وجاءت المفاجأة، فالمولودة الجديدة تشبه والدها، ما جعل الوالد يشعر برابط قويّ تجاه الطّفلة، وكادت عيناه تدمعان لولا خوفه من أمّه. عندما نظر الأب إلى وجه طفلته قال: "أنا أرى أملًا في وجهها، أريد أن أسمّيها أمل [...]".[27] ألم نقُل إنّ الأمل آتٍ! أتت أمل الصّانع (1972-) إلى الدّنيا. وقد يَسْأل سائل: ما هذا الانقلاب في عقليّة الوالد العربيّ-البدويّ؟ أين الأمل من وجهة نظره في ولادة هذه البنت بعد أربع بناتٍ وولدٍ واحد؟! في الحقيقة ليس هناك انقلاب ولا ما يحزنون! تواصل أمل سرد الأحداث في سيرتها "أمل اسم امرأة"[28] كاتبة أنّ أباها سمّاها أمل "آمِلًا من الله أن يرزقنا بالأبناء بعدها".[29] وكما قال الوالد: "أنا أومن بالله، والله لن ينساني".[30]  

أمل الصّانع

"جديرة باللَّحْم"

شعرت الطّفلة أمل الصّانع، شأنها شأن أختها الكبرى هدى شعراوي الّتي تكبرها بثلاثٍ وتسعين عامًا، بالظّلم وبدأت ثورتها على عادات أسرتها وعشيرتها في سنّ الرّابعة. وقد سمّت أولى ثوراتها "جديرة باللَّحْم" وما أظرفها من ثورة. تروي أمل: "كان جدّي قاضي قبيلتنا، وكانت حكمته تحظى بالاحترام في جميع أنحاء النقب".[31] ذات يومٍ بتَّ الشّيخ القاضي في إحدى القضايا الشّائكة، وتقبّل الطرفان المتنازعان حكم الشّيخ القاضي. كانت العادة أن تُقدَّم وليمة فاخرة للحضور من الرّجال في ديوان الشّيخ القاضي في حال حُلّت المشكلة. أمّا إذا لم تُحلّ المشكلة فيكتفي الرجال بشرب القهوة. في ذلك اليوم أعدّت النّساء وليمة فاخرة مركّبها الأساسيّ لحم الماعز. قُدِّمت الوليمة للرّجال في ديوان الجدّ، بينما كانت النّساء والأطفال ينتظرون دورهم ليأكلوا بقايا وليمة الرّجال. بعد طول انتظار وصل طبقان نصف ممتلئين، وتكتب أمل: "كان كلٌّ من أفراد العشيرة ينتظر هذه الوجبة بفارغ الصّبر، لأنّ الماعز كان ترفًا نأكله في المناسبات الخاصّة جدًّا فقط".[32] وتضيف: "حتّى لو حصلوا على جزء صغير من اللّحم فوق حصّة كبيرة من الخبز الممزوج بحساء اللبن، فقد كانت مجرّد قطعة صغيرة من ذلك اللّحم الفاخر كافية لجعل الجميع يشعرون بالشّبع".[33] وحين جاءت مرحلة توزيع اللّحم تضيف أمل قائلة: "التفتتْ أمّي إلى صينيّة اللّحم الّتي خلفها وأخذت تقطّعها وتقسّمها علينا نحن السّبعة. لم يكن الموقف محلّ تنافس بيننا. كنّا جميعًا نعرف مكانتنا ونعرف لماذا تحصل الفتيات على فضلات الطّعام. بدأت أمّي بتقديم اللّحم إلى إخوتي: قطع كبيرة ومليئة بالعصار يتقطّر منها الحساء السّاخن".[34] وكيف شعرت الطّفلة ابنة الرّابعة الّتي لم تحصل على قطعة من اللحم بعد؟ تكتب: "نظرتُ إليهم بحسد".[35] وجاء دور البنات. أمّا عن حصّتها فتقول: "نظرتُ إلى القطعة الّتي سقطت في يَدِي. كانت بائسة: عظمة مشقوقة مغطّاة بالدهون بشكل شبه كامل. غصّت معدتي. لا أعرف إن كان الدّهن أو الظّلم هو ما استفزَّني أكثر، لكنّني لم أستطع تحمّله".[36] ألقت أمل العظمة في الصّحن وانتظرت ردّ أمّها، وجاء ردّ الأمّ مدوّيًا: "إن شاء الله ما تاكلي"[37]، وتُضيف أمل: "قالت ذلك حتّى من دون أن تنظر إليّ".[38]وبدأت أمل بخوض مشادّة كلاميّة، ووصل صراخها إلى مسامع جدّها وضيوفه في جانب الرّجال من الخيمة. طلبت أمّها من عمّ أمل ضربها. تروي أمل: "أمسك عمّي بذراعي وجرّني إلى داخل الخيمة [...] ودفعني فسقطتُ أرضًا. سقطتُ على وجهي وتذوّقت التّراب".[39] هل استسلمت الطّفلة؟! قُلنا إنّها أمل والأمل لا يُذعِن للظّلم! تروي أمل بعد تذوّقها التّراب: "رأيتُ أخي واقفًا بجانب جدّتي وقطعة كبيرة من اللّحم تتدلّى من يده اليمنى".[40] تتحلّى هذه الطّفلة بسرعة البديهة وبسرعة الحركة أيضًا. تروي: "ركضتُ نحوه بأقصى سرعة، مدفوعةً بالغضب وبالعزيمة، وانتزعت قطعة اللّحم من يده وانطلقتُ إلى خارج الخيمة. تبعني صوت نحيبه لأمّي في الظّلام. سمعتُ أمّي تصرخ خلفي مهدّدة بقتلي إذا لم أعُد في الحال".[41] في هذه اللحظات: "التفتتْ جدّتي، حليفتي الكبرى، إلى أخي وقالت: "اركض. اذهب واحصل على لحمك. إذا أمسكت بها فهو لك، وإذا لم تفعل فأنت غير جدير به"".[42] وبدأت المطاردة، كما تروي أمل: "ركض أخي وأخواتي جميعًا خلفي. كانت ساقاي الصغيرتان تتحرّكان بسرعة تحتي، تحملانني أسرع فأسرع، بعيدًا عن الأصوات الّتي تصرخ عليّ بغضب أو تشجّع أخي. ركضتُ مسافة طويلة حتّى أصبح الصّوت الوحيد الّذي أستطيع سماعه هو وقع قدمَيَّ على الرّمال. بلغتُ قمّة التّلّة المطلّة على خيمة والِدَيَّ. هنا توقّفتُ، التقطتُ أنفاسي، دعوتُ دعاء مقتضبًا لله والتفتُّ حولي. لم يكن أحد ورائي".[43] يبدو أنّ ابنة الرّابعة كانت قد شعرت بالأمان في تلك اللّحظات، وهي تحدّثنا عن شعورها حينها وعن وليمتها قائلة: "نسمة من الراحة نفحتْ في ضلوعي. جلستُ وفتحتُ راحة يَدِي، فرأيتُ تلك القطعة الشّهيّة من اللّحم سالمة غانمة فيها. كان الحساء يسيل بين أصابعي وعلى يَدِي، ويغطّيها بطبقة لزجة من اللّبن والغبار، لكنّني لم آبه لذلك". وأخيرًا، بدأ طقس الطّفلة المنتصِرة في التهام وليمتها. تقول: "رفعتُ اللّحم إلى أنفي وشممتُ رائحته اللّذيذة، ثمّ قرّبتُ اللّحم برويّة إلى شفتَيّ، قبَّلتُه قبل أن أفتح فمي وأقضم أصغر قطعة. أغمضتُ عينَيَّ وأنا أتذوّق طعم الانتصار. قلتُ "نعم" بابتسامة ساخرة. ثمّ بلعتُ قطعة من اللّحم وشعرتُ بها تُغذّي كلّ جوانحي. وأردفتُ بالابتسامة السّاخرة ذاتها: "أنتِ جديرة بالّلحم"".[44]   

الذّكَر والأنثى والحسد

لعائلة أحمد أمين قصص وحكايا مع "الحسد". يروي جلال أمين (1935–2018)، وهو أصغر أبناء أحمد أمين (1886-1954)، في "رحيق العمر": "كم كانت كلمة "الحسد" تتردد على أسماعنا في صباي".[45] ويضيف: "كان اعتقاد أمي وجيلها في الحسد شيئًا جادًّا جدًّا ولا يحتمل المزاح".[46] ويعطي أمثلة من واقع أسرته، سنكتفي هنا بذكر اثنين منها.

عندما وُلِد أخوه البكر جاء إلى أبيه "من يقول له: "إن الله رزقه ببنت جميلة"".[47] ولماذا يكذب هؤلاء ولا يقولون الحقيقة؟! يكذب هؤلاء كما يروي جلال أمين "منعًا لانتشار خبر وصول ابن ذكر فيصيبه الحسد".[48] قُلنا إنّ الأمل آتٍ!!

كما يروي جلال أمين قصّة "ما حدث مرة وكاد يؤدي إلى طلاق أخي حافظ من زوجته".[49] ويضيف: "كنا جالسين لتناول الغذاء أنا وأمي وحافظ وأحمد وحسين، عندما سمعنا دقًّا على الباب وكان القادم رجلًا ذا مهنة مهمة جدًّا في تلك الأيام (منتصف الخمسينات) وهي "إصلاح بابور الجاز"".[50] ويستطرد: "دخل الرجل البيت وقادته أمي إلى المطبخ ليفحص البابور، وأثناء سيره في الصالة لمحنا ونحن جالسين إلى المائدة فسأل أمي سؤالًا فظيعًا: "هل كل هؤلاء أولادك؟"".[51] تجدر الإشارة إلى حقيقة أنّ هؤلاء الأولاد من الذّكور! يؤكّد جلال: "كان السؤال فظيعًا في نظر أمي؛ إذ إن معناه المؤكد الحسد، وما يمكن أن تؤدي إليه "عين الحسود" من أذى للأولاد".[52] بتلقائيّة أجابته بالنّفي وأشارت إلى ابنها حافظ ذي الملامح الأوروبيّة قائلة: "لا، هذا الولد أمه طليانية!". ويضيف جلال: "ولا بد أن الرجل صدّقها".[53] بهذه الكذبة انتهت المشكلة مع هذا الرّجل. لكنّ مشكلة أخرى طَفَتْ، فقد صدّق الكذبة أيضًا "الخادم "حمامة" الذي سمع السؤال والجواب، واحتفظ بهذه المعلومة في نفسه".[54] مرّت الأيّام. يقصّ جلال: "ثم تزوج حافظ وسكن مع عروسه الجديدة في منزلنا حتى يتم إعداد بيت الزوجية".[55] في أحد الأيّام خرج حافظ لعمله، فإذا بحمامة يقول للعروس الجديدة: "تعرفي يا ست مها، سي حافظ مش أخو سي حسين ولا سي أحمد ولا سي جلال!". بعد سماعها هذا الخبر "انزعجت زوجة أخي بشدة وسألته باستغراب عما يعرفه عن هذا الأمر".[56] وكان حمامة صادقًا في إجابته: "سي حافظ أمه طليانية...!".[57] يبدو أنّ مشكلة قد ثارت بين حافظ وعروسه بسبب إخفائه هذا السّرّ العظيم عنها. ويخلص جلال إلى القول: "كان من الصعب جدًّا على حافظ إقناع عروسه بغير ذلك، إذ ما الذي يمكن أن يدفع الخادم إلى اختراع شيء كهذا؟".[58] 

جلال أمين

أَبْشِري سيّدتي

رحّب المسؤولون في مجلّة "المنتدى" المقدسيّة بالبحث في المرّة الأولى، ولكنّهم عزفوا عن نشره بعد أن عرفوا الحقيقة! والكاتب هو إحسان عبّاس (1920-2003)، ابن قرية عين غزال السّاحليّة الفلسطينيّة. يروي إحسان في "غربة الراعي": "كتبت بحثاً موجزاً عن الجاحظ وعن مقدرته في ابراز الخصائص النفسية لدى شخصيات في مجتمعه، وأرسلت هذا البحث لينشر في مجلة تصدر في القدس، لعلها "المنتدى"".[59] الموضوع في غاية الأهمّيّة، فلماذا رحّبوا به وبعدها عزفوا عن نشره؟ ما الحقيقة الّتي اكتشفوها عن الكاتب؟! هل ارتكب جريمة سرقة البحث من باحث آخر؟! الرّسالة الّتي تلقّاها إحسان تكشف السّرّ. يكتب إحسان أنّه بعدما أرسل البحث إلى المجلّة جاءه الجواب: "حضرة السيدة احسان عباس...".[60] ويضيف: "فلما صححت هذا الخطأ [...] عزف المسؤولون في المجلة عن نشره – لقد رحبوا بالبحث لما كان لسيدة، إذ كانوا يريدون منه أن يقولوا إن المستوى الثقافي لدى المرأة قد ارتفع".[61] أَبْشِري سيّدتي! 

إحسان عبّاس

فراريج الفقراء

إذا كانت أمل الصّانع قد استلذّت بتذوّق لحم الماعز، فإنّ عدنان الملوحي (1924-) قد استلذّ بتذوّق لحم الفراريج... فراريج الفقراء! يروي الملوحي في "بين مدينتين": "كان أبي شيخاً وإماماً ورجل دين [...] وكان أجر الشيخ الإمام، من الإمامة وخطبة الجمعة، ومن عمل كان يقوم به في ديوان المحكمة الشرعية في حمص لا يتجاوز أربعاً وعشرين ليرة سورية في الشهر في تلك الأيام من عام 1930".[62] وعن وضع الأسرة المادّيّ يقول: "نحن في الحقيقة، أسرة رقيقة الحال مستورة بستر الله، كما كانت تقول أمّي!!!".[63] أمّا عن وجبة عشاء الأسرة فيكتب: "وكان الشيخ الإمام، إذا جاء المساء، وحل موعد العشاء، ولم يكن عندنا ما نأكله، استبدل الفراريج التي لم نكن نراها ولا نعرف طعمها، إلّا مرة أو مرتين في العام، برؤوس من البصل، يابسة وكبيرة، يدفنها في منقل النار ويدسها في الرماد الحار، حتى تنضج وتنتشر رائحتها الشهية... ثم يخرجها من النار ويزيل قشرها، ثم يرش عليها شيئاً من الملح والكمُّون، ويقدمها إلينا مع الخبز، وهو يقول ضاحكاً صابراً محتسباً: هذه فراريج الفقراء فيها غذاء وصحة وشفاء، فنقبل على البصل المشوي، ونصيب منه ما شاء الله أن نصيب، ونتخيل أننا نأكل الدجاج والطير والحمام، ونحمد الله، ونتذكر دعاء الشيخ الإمام: (اللهم استر الفقر بالعافية)!!!".[64]

عدنان الملوحي

لم ننتهِ من الطّرف والنّهفات. سنخصّص الإطلالة القادمة للنّوادر الطّريفة في لقاء العادات واللّهجات والعقليّات المختلفة في وطننا الكبير، داخل القطر الواحد أو بين الأقطار. ستعرّفنا البيروتيّة عنبرة سلام (1897-1986) على فطور القدس وفطور بيروت حين زارهم خطيبها المقدسيّ أحمد سامح الخالدي. وسيحدّثنا نجيب محفوظ (1911-2006) عن فيلم "بياع الخواتم"، من بطولة المطربة اللّبنانيّة فيروز، حين عُرِض في القاهرة. كما سنكتشف لماذا ظنّ جيران اللّبنانيّ الشّيعيّ حسين مروّة (1908-1987)، حين سكن في العراق، أنّه وأولاده من أهل السّنّة.   

ألقاكم/نّ بخير.


[1] . محفوظ، نجيب. (2022). أصداء السيرة الذاتية. وندسور: مؤسسة هنداوي. ص 5.

[2] . المصدر السابق. ص 5.

[3] . المصدر السابق. ص 5.

[4] . المصدر السابق. ص 5.

[5] . المصدر السابق. ص 5.

[6] . المصدر السابق. ص 6.

[7] . المصدر السابق. ص 6.

[8] . المصدر السابق. ص 6.

[9] . المصدر السابق. ص 6.

[10] . المصدر السابق. ص 6.

[11] . عبود، مارون. (2013). أحاديث القرية: أقاصيص وذكريات. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 53.

[12] . المصدر السابق. ص 53.

[13] . شعراوي، هدى. (2013). مذكرات هدى شعراوي. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 23-24.

[14] . المصدر السابق. ص 28.

[15] . المصدر السابق. ص 29.

[16] . المصدر السابق. ص 29.

[17] . المصدر السابق. ص 29.

[18] . المصدر السابق. ص 29.

[19] . المصدر السابق. ص 29.

[20] . المصدر السابق. ص 33.

[21] . المصدر السابق. ص 33.

[22] . المصدر السابق. ص 33.

[23]  المصدر السابق. ص 33.

[24] . المصدر السابق. ص 33.

[25] . المصدر السابق. ص 33.

[26] . Elsana Alh’jooj, Amal. (2022). Hope is a Woman’s Name. London: Halban. P 8.

[27] . المصدر السابق. ص 12.

[28] . كتبت أمل الصّانع-الحجوج سيرتها بالإنجليزيّة، والنّصوص المقتبسة منها هنا هي ترجمة خاصّة.

[29] . المصدر السابق. ص 12.

[30] . المصدر السابق. ص 12.

[31] . المصدر السابق. ص 19.

[32] . المصدر السابق. ص 24.

[33] . المصدر السابق. ص 24.

[34] . المصدر السابق. ص 25.

[35] . المصدر السابق. ص 25.

[36] . المصدر السابق. ص 25.

[37] . المصدر السابق. ص 25.

[38] . المصدر السابق. ص 25.

[39] . المصدر السابق. ص 25.

[40] . المصدر السابق. ص 26. 

[41] . المصدر السابق. ص 26.

[42] . المصدر السابق. ص 26.

[43] . المصدر السابق. ص 26.

[44] . المصدر السابق. ص 26.

[45] . أمين، جلال. (2010). رحيق العمر. الطبعة الثانية. القاهرة: دار الشروق. ص 36.

[46] . المصدر السابق. ص 37.

[47] . المصدر السابق. ص 37.

[48] . المصدر السابق. ص 37.

[49] . المصدر السابق. ص 37.

[50] . المصدر السابق. ص 37.

[51] . المصدر السابق. ص 38.

[52] . المصدر السابق. ص 38.

[53] . المصدر السابق. ص 38.

[54] . المصدر السابق. ص 38.

[55] . المصدر السابق. ص 38.

[56] . المصدر السابق. ص 38.

[57] . المصدر السابق. ص 38.

[58] . المصدر السابق. ص 38.

[59] . عبّاس، إحسان. (2006). غربة الراعي: سيرة ذاتية. الإصدار الثاني. عمّان: دار الشروق للنشر والتوزيع. ص 160.

[60] . المصدر السابق. ص 160.

[61] . المصدر السابق. ص 160.

[62] . الملوحي، عدنان. (1990). بين مدينتين: من حمص الى الشام.  لندن: رياض السيد للكتب والنشر. ص 24-25.

[63] . المصدر السابق. ص 25.

[64] . المصدر السابق. ص 26.

الصور المرفقة: استخدمت بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

د. إلياس زيدان

محاضر في مجالي القيادة التّربويّة وتنمية منظّمات المجتمع المدنيّ. مستشار تنظيميّ ومخطّط إستراتيجيّ. 

حنين زيد
قرأت مقالتك البديعة “طرف ونهفات في السير والمذكرات” بكل شغف وإعجاب، ولا يسعني إلا أن أشكرك على هذا العرض الشيق الذي جمع بين جمال السرد وعمق المعنى. لقد أضفيت على الموضوع لمسة إنسانية دافئة من خلال عرض تلك المواقف الطريفة التي تظهر الجوانب الخفية لشخصيات أثرت في التاريخ والأدب. إن تناولك لهذه الطرائف لم يكن مجرد استعراض للأحداث، بل كان دعوة غير مباشرة للتأمل في أن إنسانيتنا، مهما بلغنا من مراتب، تبقى مليئة بتلك اللحظات البسيطة التي تجعل الحياة أجمل وأقرب إلى القلوب. أحييك على اختيارك الدقيق للأمثلة التي جاءت متناسقة مع روح المقال، وأتمنى أن تستمر في إثراء القراء بهذا النوع من الكتابات التي تجمع بين المعرفة والترفيه، وتوقظ فينا الرغبة لاستكشاف صفحات الماضي بعين محبة ومتفحصة
الخميس 2 كانون الثاني 2025
سمعان سمعان
صباح الخير وكل عام وانتم بخير لقد اعدتني الى مسيرة حياتي يوم كنت افتش عن سير الناجحين والناجحات كي اتثقف وابني حياتي وقد طبقت ذلك على دراسة شخصية للعائلات الناجحة في مجتمعنا ..
الجمعة 3 كانون الثاني 2025
رأيك يهمنا