سوريا ما بَعد الأسَد: أَيّ عَلاقَة مع الحركات الفلسطينية؟
بَعد أن وصلت موجة الربيع العربي الأراضي السورية عام 2011، وبدأ الشارع بالتحرّك ضد نظام الأسد، كانت بعض الفصائل الفلسطينية تميل إلى عدم تقديم موقف تجاه ما يجري، ربّما لعدم وضوح المَشهد السوري في حينها، ومآلات الثورة، بَيد أنّ تجربة الفلسطينيين السابقة في الأردن ولبنان والكويت ولبنان كانت العامل الأقوى في ميل تلك الفصائل نحو عدم إبداء مَوقف معلَن، ونتحدث هنا عن الفصائل الفلسطينية ذات الحضور في سوريا حتى تلك اللحظة، وهي حالة كانت أقرب إلى اللّعب لصالح النظام، لكنّها كانت حالة مرفوضة من النظام ذاته الذي توقّع موقفًا واضحًا بل وعملًا مساندًا له، خصوصًا حين بدأت الحِراكات تتبدّل من الشكل الشعبي العفوي إلى الحركيّ المنظَّم.
قاد تسارع الأحداث في نهاية المطاف إلى فَرض الموقف على الفصائل الفلسطينية، إذ لم يعُد "الحياد" خيارًا، فاتّخذت حماس موقفًا تحترم فيه مطالب الشارع السوري، فيما بقيت فصائل صغيرة أخرى من حيث جمهورها تحت مظلة النظام ومنها من تولّى أدوارًا أمنيّة لصالحه، كما هو الحال مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، والمجموعات المسلحة التي ضمّت فلسطينيين وسوريين وشاركت في الحرب مثل "لواء القدس- قوات الجليل".
مع ابتعاد حركة حماس عن نظام الأسد دفعت ثمنًا كبيرًا تمثّل بتوتر علاقتها بحزب الله وإيران وهما داعمان استراتيجيان لها، لكنّها حاولت أن تشقّ مسارات بديلة لها في أكثر مِن بلد، في مصر بعد الثورة، وهي حالة لم تستمر، وفي تركيا وقطر، وهما الدولتان اللتان شكّلتا مجالًا جديدًا لتحرك مكتبها السياسي، ومن ثم استطاعت ترميم العلاقة مع إيران وحزب الله، فيما كانت حركة "فتح" في الاتجاه المقابل تحاول ترميم العلاقة مع نظام الأسد رغمَ الخِلافات التاريخيّة معه منذ عهد الراحل ياسر عرفات، في تحرّك وصل ذروته عام 2015 بإعادة العلاقة مع النظام، متجاوزة ثلاثة عقود من القطيعة، وهي خطوة لم تحقق الكثير لحركة "فتح"، فيما أبقت للأسد فرصة لاستخدام الخطاب المناوئ لإسرائيل والولايات المتحدة ومقولات الممانعة كمظلة لحكمٍ استبداديّ متجذر، طال قمعه الفلسطيني كما طال السوري طيلة فترة حكم الأسد، الأب والابن، وهي ممارسة دأب عليها النظام، حاله كحال الكثير من الأطراف العربية التي استخدمت تاريخيًا المقولات القومية والوطنية للتغطية على سياسات الاستبداد والقمع.
فقدت كلّ تلك الممارسات معناها حقيقةً بعد الجرائم التي ارتكبها النظام بشكل مكثّف ولم تعُد عملية التغطية تلك مقنعة لأي طرف، خصوصًا حين أصدر النظام أكثر من تلميح وتصريح بأنّ زواله ليس في مصلحة إسرائيل، فالبدائل قد لا تتخذ سياسة النظام تجاه إسرائيل والتي يمكن تلخيصها في الاحتفاظ بحقّ الردّ دون ردّ، وفي رعاية الفصائل الفلسطينية التي حاول الاستثمار في وجودها أكثر من تقديم العون الفعّال لها، وقد تجلّى هذا الاستثمار خلال الحرب الإسرائيلية على القطاع ولبنان منذ أكتوبر 2023، إذ التزَم الصّمت رغم انخراط حزب الله وإيران فيها، ورغم عودة العلاقة مع حماس وإن كانت فاترة، في ظنٍّ منه أنّ الانفتاح على أنظمة التطبيع العربية قد يسعفه في ضمان استمرارية النظام، وفي اعتقاد متوهّم أنّه قادر على الوقوف بين تطبيع وممانعة، ليجد نفسه "حليفًا" دون جدوى لمن وقف في منتصفهم، هي سنّة الشرق الأوسط التي لا تحتمل المساحات الرمادية.
بعد أن سقط النظام وبدأت ملامح سورية جديدة بالتشكّل، أصبح السؤال الملحّ؛ ما أثَر ذلك على الفصائل الفلسطينية؟ باختصار تفرضه المساحة المحدودة لهذا المقال، يمكن القول إنّ الحركات الصغيرة التي لم تجد لنفسها مساحة للعمل سوى سوريا، مهددةٌ بالتلاشي والتفكك وخصوصًا أنّها قد ساندت النظام فعليًا، فيما حركة الجهاد الإسلامي وإن خسرت مقرّها ومساحتها، فإنّ أهميتها مرتبطة بعملها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإن كانت تعرّضت لهزة سياسية بفعل ما حلّ بالمحور برمّته، لكنها ليست حركة جماهيرية من الأساس، وحضورها السياسي مرتبط بفعلها العسكري غالبًا وهو فعلٌ مبنيّ على مقدرات ذاتية داخلية أكثر من كونه فعلًا قائمًا على الخارج، أما الحاضنة على المستوى الإقليمي فمن المتوقّع أن تبقى إيران لاعبة لهذا الدور بالنسبة للجهاد الإسلامي، مع تغيّرات محتملة بعد تبلور آثار الحرب بشكلها النهائي على منطقة الشرق الأوسط برمّتها.
أما بالنسبة لحركة حماس، فإنّها كانت قد تنازلت عن علاقتها بنظام الأسد وأي منفعة مرتبطة بها منذ العام 2012 ومع ذلك استطاعت استعادة الدعم الإيراني لها واسترجاع زخمه تدريجيًا، لذلك لا يبدو أنّ حماس ستكون من المتأثرين بشكلٍ سلبي من زوال نظام الأسد، وخصوصًا أنّ مساحة عملها الأساسية داخل الأراضي الفلسطينية مع وجود واضح في لبنان، بيد أنّ الأثمان التي قد تدفعها حماس أكثر وضوحًا في المتغيرات الجديدة ما بعد الحرب على لبنان، أما سقوط الأسد فهو أمر هامشي التأثير، وهو استنتاج مبني على إدراك طبيعة حماس الجماهيرية التي اكتسبت نفوذها السياسي من قاعدتها الجماهيرية أكثر من أي علاقات على المستوى الإقليمي أو الدولي، بل إن العلاقات لم تتشكل إلا لاتساع قاعدة الحركة ونفوذها في المجتمع الفلسطيني.
سياسيًا وفي مرحلة ما بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق، قد تستطيع حماس الحفاظ على علاقة متّزنة مع القائمين الجدد على أمر سوريا، لكن سوريا الجديدة لن تكون قادرة على استيعاب أي فصيل فلسطيني بصفته حركة تحرر وطنية وذي برنامج مقاوم، وهو أمر يُمكن قراءته بوضوح في تصريحات الشرع التي أعلن فيها عدم الاستعداد لخوض صراع مع إسرائيل، مع ضرورة التركيز على بناء سوريا الجديدة، وأعتقد أنّ حركة حماس ليس لديها آمال بشأن اعتبار سوريا مساحة ومنبرًا كما كانت آمالها منعقدة مثلًا على الثورة المصرية التي أفرزت انتخاباتها الأولى بعد الثورة وصول "الإخوان المسلمين" للحكم.
لكنّ القاعدة الأساسية التي ينبغي على الفصائل الفلسطينية الانطلاق منها في بناء تصوراتهم عن الأنظمة، هي أنّ الاستبداد والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وإن كان شكل النظام السوري الجديد لم يتبلور بعد، فإنّ شكل النظام السوري السابق كان أوضح من أن تجمّله أي محاولة للاستثمار في القضية الفلسطينية، وهي قناعة ربما تشكلت بشكل راسخ لدى حركات المقاومة الفلسطينية بعد الحرب الأخيرة على القطاع.
أما بشأن حركة فتح التي رمّمت علاقتها مع النظام السوري السابق كما أسلفنا، فقد تدفع القائمين الجدد على أمر سوريا على التوجّس من العلاقة معها، لكن العلاقة الواضحة بين الطرفين ليست أمرًا ملحًّا لأيّ منهما، كما أنّ توجهات القيادة السورية الجديدة تجاه الأنظمة العربية ستكون أقرب إلى التفاهم إجمالًا، ولن تتعامل مع قيادة منظمة التحرير كاستثناء.