الطُّفولَة الفِلسطينيّة بَين الأَحلام المُجْهَضَة والتمنّيات البَسيطَة

"عَيناك نافِذتان على حُلُم لا يجيء

وفي كلّ حُلُم أرمّم حُلُما وأحُلُم"

محمود درويش

في واقع طَبيعي، يُفترَض أن تكون الطفولة مليئة بالأحلام والتطلّعات المُشرقة للمستقبل. لكن بالنسبة للأطفال الفلسطينيين في غزة، والضفة الغربية والداخل الفلسطيني، يبدو الواقع مختلفًا تمامًا؛ إذ تحاصرهم التحدّيات اليوميّة، ويَحرمهم الظلم والصدمات المستمرة من بناء تصورات واضحة عن مستقبلهم.

الاحتلال يُجهض أحلامَهم

يعيش الأطفال الفلسطينيون في واقع مركّب مليء بالصعوبات التي تزرع فيهم شعورًا دائمًا بالضياع. الاحتلال والصراع المستمر لا يؤثران فقط على حياتهم اليوميّة، بل يَخلقان حالة من التّيه تجعلهم عاجزين عن تصّور مستقبل مستقر، أو حتى السعي لتحقيق أحلامهم.

في غزة، يتكرّر الدّمار وتنقطع الخدمات الأساسية باستمرار، مما يجعل الأطفال يكبرون في بيئة لا تمنحهم الأمان، ولا تتيح لهم فرصة لبناء تصوّرات واضحة عن حياتهم المستقبلية. فَقَد أطفال غزة القدرة على الحُلُم بالمستقبل، وأصبحوا يتمنّون أمنيات أساسيّة تتعلّق بصراع البقاء، مثل رؤية آبائهم خارج السجون أو العيش في منزل آمن بعيدًا عن الدمار. عبّر أحد الأطفال عن ذلك بقوله: "أنا بسّ بحُلُم أشوف أبوي طالع من السجن، وبحُلُم نرجع عبيتنا في غزة"، بينما قال آخر: "يا ريت يِرْجعوا رجلين أخوي عشان نرجع نلعب مع بعض"، وأجابت فتاة ثالثة والدمع يملأ عينيها: "نفسي تِرجع أمي وأختي...".

أما في الضفة الغربية، فتَفرض الحواجز العسكرية والمستوطنات، والاعتداءات المستمرة واقعًا من العَزل وتقييد الحركة، مما يعيق إمكانية التّعليم المستقر والعمل، ويجعل الأفق المستقبلي للأطفال ضيقًا ومحفوفًا بالعراقيل. يحُلُم الأطفال هناك بأن يتمكنوا من الذهاب إلى مدارسهم دون تأخير أو خوف، أو أن يستطيعوا التجوّل، واللعب وزيارة الأقارب دون التعرّض لهم. لكنّ هذه الأحلام البسيطة تتحول إلى معركة يومية في ظلّ الاحتلال. 

الواقِع الصَعب داخل "الخطّ الأخضر"

أما في الدّاخل الفلسطيني، فيعيش الأطفال واقعًا مختلفًا لكنّه لا يقل قسوة، إذ يعانون من ناحية من تشويه في الهويّة والانتماء، إضافة إلى انعدام الأمان بسبب تصاعد نسبة الجريمة والعنف. في كثير من البلدات والمدن الفلسطينية داخل "الخط الأخضر"، أصبحت الجريمة المنظّمة وعمليات القتل المتكررة جزءًا من الحياة اليوميّة، مما يجعل الأطفال يكبرون في بيئة يغلب عليها الخوف وعدم الاستقرار والتوتّر الدائم.

يفتقد العديد من هؤلاء الأطفال، خاصة من الفِئات المهمَّشة، إلى الشعور بالأمان حتى في طريقهم إلى المدرسة أو أثناء اللعب في الأحياء السكنيّة. يحُلُم الأطفال هناك بأن يعيشوا في مجتمعات آمنة، حيث لا تهدّد الرصاصات الطائشة حياتهم، وحيث يمكنهم العودة إلى منازلهم دون قَلَق من أن يسمعوا خبر مقتل قريب أو صديق. يتمنّى العديد منهم أن يروا قراهم ومدنهم خالية من العصابات والجريمة، لكن هذه التمنيّات غالبًا ما تصطدم بواقع الإهمال الرسمي وغياب سيادة القانون.

الفَرق بين الحُلُم والتّمنّي

يَظهَر الفَرق الجوهريّ بين الحُلُم والتمنّي بوضوح في حياة الأطفال الفلسطينيين. فالحُلُم هو طموح مستقبلي يسعى الإنسان لتحقيقه من خلال الجهد والعمل، بينما التمنّي هو مجرد رغبة في حدوث شيء دون امتلاك القدرة الحقيقية على تحقيقه. في ظل الواقع القاسي الذي يعيشه الأطفال الفلسطينيون، تتحوّل أحلامهم إلى مجرّد تمنيّات، ويصبح الحُلُم بمستقبلٍ أفضلَ رفاهيّةً لا يستطيع الكثير منهم تحملّها.

في هذا السياق، نجد أنّ بعض الأطفال الذين ينتمون إلى فئات مُهمّشة ومُستضعَفَة، لم يعد لديهم أحلام مهنيّة أو طموحات طبيعية. فعندما سُئل طفل في الخامسة عشرة من عمره، من الداخل الفلسطيني، عمّا يريد أن يصبح عندما يكبر، أجاب قائلاً: "أنا أحُلُم بأن أكون ممّن يعملون في إقراض المال، والربح من الفائدة". تعكس هذه الإجابة المؤلمة مدى تأثير الواقع القاسي على تطلّعات الأطفال، حيث لم يعد الحُلُم لديهم مرتبطًا بالطموحات الطبيعية، كأن يصبحوا مهندسين أو معلّمين أو فنانين، بل أصبح محكومًا ببيئة القهر والحرمان التي يعيشونها، وبنماذج الشخصيات التي أصبح لها نفوذ وسيطرة في ظلّ غياب الردّع.

أهّمية الحُلُم في التطّور الصحيّ للأطفال

ليس الحُلُم مجرّد ترف فكري، بل هو عنصر أساسي في تطّور الأطفال الصحيّ والنفسيّ. فالأحلام تَمنح الأطفال القُدرة على التخيّل والإبداع، وتُعزّز لديهم الثّقة بالنفس والقُدرة على مواجهة الصعوبات. عندما يَحُلُم الطفل بمستقبل أفضل، فإنه يطوّر آليات نفسيّة لمقاومة الإحباط واليأس، ممّا يساعده على تجاوز التحدّيات اليومية.

أثبتت الدراسات أنّ الأطفال الذين يمتلكون أحلامًا واضحة يتمتعون بصحة نفسيّة أفضل، إذ إن التخطيط للمستقبل يمنحهم إحساسًا بالسيطرة على حياتهم، ويقلّل من مشاعر القلق والتوتّر. كما أن وجود هدف يسعون إليه يجعلهم أكثر مقاومة للصدمات النفسيّة التي قد يتعرّضون لها في بيئاتهم الصّعبة.

على المستوى الجَسَدي، فإن ّالأطفال الذين يعيشون في بيئات تُشجّعهم على الحُلُم والتطلّع إلى المستقبل يكونون أقلّ عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة؛ فالأمل والتفاؤل لهما تأثير مباشر على الجهاز العصبي، ويساهمان في تقليل مستويات التوتّر والضغط النفسي، مما ينعكس إيجابًا على الصحة العامة للأطفال.

تَشجيع الأطفال على الحُلُم

علينا كأهل وكمربين أن نعي أهمية تحفيز الحُلُم، وإعطاء مساحة للأطفال للتعبير عن مشاعرهم وخيالهم وأحلامهم، وألّا يتمّ التعامل مع الأمر كترف، أو كتوجّه غير شرعي بسب صعوبة الظروف والواقع. من المهمّ أن نعي أن بعض الأمور في الواقع خارجة عن سيطرتنا، لكنّ أفكارنا وأحلامنا هي تحت سيطرتنا.

من المهم تقديم دعم نفسيّ مستمرّ للأطفال الذين عانوا من الصدمات، لمساعدتهم على تجاوز مخاوفهم، ولتعزيز حَصانتهم وبناء رؤى إيجابية لمستقبلهم.

إنّ عرض قصص نجاح لأشخاص تغلّبوا على الصّعوبات، يُشجّع على الحُلُم ويمنح الأطفال الإلهام ويجعلهم يؤمنون بقدرتهم على تحقيق أحلامه.

خاتمة

رغم كلّ الصعوبات، يظل الأمل موجودًا في قدرة الأطفال الفلسطينيين على تجاوز المِحَن إذا توفّرت لهم الظروف المناسبة. لا يمكن غضّ الطَرَف عن معاناة هؤلاء الأطفال الذين يستحقّون فرصة لبناء أحلامهم دون قيود، في بيئة تكفل لهم حقوقهم الأساسيّة وتمنحهم مستقبلاً أكثر عدلاً واستقرارًا. إن مساعدة الأطفال على الحُلُم ليست مجرد مسؤولية أخلاقيّة، بل هي خطوة ضرورية لبناء مستقبل أفضل لهم ولمجتمعهم بأسره.

د. إيزابيل سمعان رمضان

باحثة ومحاضرة في كلّية أورانيم للتربية ومركّزة مشاريع تربويّة ومرشدة طواقم تربويّة

رأيك يهمنا