مآلات استهداف المنشآت المائية في غزة

يعيش قطاع غزّة وضعًا صعبًا بما يتعلق بالمياه حتى قبل الحرب مما أدى إلى تفاقم الوضع إلى حد كارثي خلال الحرب التي اندلعت بتاريخ 7 أكتوبر 2023 بسبب الاستهداف المتتابع للمنشآت المائية في قطاع غزّة.

في الحرب الحالية تشير التقارير إلى تدمير 50% من الآبار الصالحة للاستخدام مثل بئر أبو حصيرة وبئر سيفة وبئر غبن ومعظم آبار منطقة جباليا كما تم تدمير خزّان المياه في تل الزعتر كما تم تدمير 30 كيلومتر طولي من شبكات المياه والصرف الصحي وبالإضافة إلى تدمير محطة تحلية مياه البحر في خان يونس وتدمير محطة عامر للضخ.

هذا الاستهداف لم يكن عشوائيًا، بل يُعبّر عن سياسة ممنهجة تهدف إلى تحويل الماء إلى أداة أو وسيلة للابتزاز السياسي أو حتى "تحويل الماء إلى سلاح" من أجل تعطيش المواطنين وبالتالي فرض واقع جديد. قبل أن نبدأ بسرد تاريخ استهداف المنشآت المائية في غزة، من الجدير بالذكر أن الوضع المائي كان صعبًا حتى قبل بدء الحصار على غزّة عام 2007 بعشرة أعوام وتحديدًا في عام 1997 وصف البنك الدولي الوضع المائي في غزة باعتباره "حالة طوارئ" وقد بدأ الوضع بالتفاقم مع بدء الحصار عام 2007.

بعد الحصار، في 4 ديسمبر 2008 نشر معهد جنيف للسلام بأن "الماء تحول إلى سلاح في صراع الشرق الأوسط" ومع اندلاع حرب 2008 تفاقم الوضع أكثر مما جعل الوضع مع نهاية الحرب كارثيًا بما يتعلق بعملية التخلص من المياه العادمة في قطاع غزة، والإمداد بمياه الشرب. يُضاف إلى ذلك أن استهداف منشآت معالجة الصرف الصحي كان مُدمرًا لدرجة أن عشرات التقارير نُشرت بعد الحرب أكدت بأن شواطئ غزة ملوثة والسباحة فيها خطرة بل وممنوعة لأنها تحوّلت إلى "بركة مجاري" وبتتبع تلك التقارير نجد أن الوضع بقي مأساويًا مع محاولات متواضعة لإصلاح ما تمّ تدميره. 

مع سوء الحال الذي بقي بعد عدوان 2008- 2009 استهدفت المنشآت المائية مرّة أخرى في العدوان على الغزّة خلال نوفمبر 2012 حيث تم تدمير 12 بئرًا للمياه على الأقل كما تدمير مرافق أخرى لدرجة أنه "الأمم المتحدة" نشرت تقريرًا خلال نفس العام 2012 بعنوان "غزة عام 2020 - مكان ملائم للعيش؟" يتوقع بأن خزان المياه الجوفيّة في قطاع غزة لن يكون صالحًا للاستخدام عام 2016 وأن استهلاك المياه سوف يزداد بنسبة 60% وبالتالي فإن الوضع سيكون صعبًا جدًا.

رغم كُل التحذيرات، تم استهداف آبار المياه في عدوان 2014 التي استمرت 55 يومًا حيث أشارت تقارير بأن القصف الإسرائيلي طال 9 آبار مياه وعشرات الخطوط وشبكات المياه في المنطقة الشرقية من مدينة غزة، وقُدّر الدمار في حينه بحوالي 70% من المرافق المتعلقة بالمياه وتم إحصاء 36 منشآت معالجة الصرف الصحي تم استهدافها مثل المضخات وشبكات التوصيل. مع كُل هذا الدمار وبالطبع مع وجود الحصار كانت معالجة الصرف الصحي الناتج عن كل قطاع غزة مهمة شبه مستحيلة وبالتالي كانت 100 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي تصب في البحر. 

كان الخطر المُحدق بصحة الجمهور واضحة بسبب كميّة التلوث الناتجة عن تلوث مياه البحر واستهداف منشآت الصرف الصحي ومع ذلك لم يتغيّر واقع استهداف المنشآت المائية حتى في المواجهة التي اندلعت مايو 2021، حيث أشار تقرير للـيونيسيف حينها بأن حوالي نصف شبكة المياه تضررت وكان هناك نحو 800 ألف شخص لا يسعهم الحصول على المياه من الشبكة بسبب الأضرار الكبيرة التي لحقت بالآبار والخزانات الجوفية ومحطات تحلية المياه ومحطات الصرف الصحي وشبكات توصيل المياه ومحطات الضخ، مما يعرض الأطفال لخطر الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه.

المؤسف، أن عام 2022 شهد جهودًا جبّارة لتحسين واقع المرافق المائيّة في غزة لدرجة أنه تم "الاحتفال" بأن شواطئ غزّة خالية من التلوث منذ فترة طويلة وأن شواطئ غزّة استعادت عافيتها بالأخص بعد افتتاح وتشغيل محطتي غزة والوسطى اللتين تخدمان أكثر من نصف مليون نسمة ومحطة خان يونس التي تخدم أكثر من ربع مليون نسمة. 

هذه الفرحة بشواطئ نظيفة وخالية من التلوث لم تتم، فليست وحدها شواطئ غزة الملوثة خلال هذه الحرب، فأكثر من 97% من المياه المتاحة للشرب وتحديدا المستخرجة من الآبار هي ملوثة وفق معايير منظمة الصحة العالمية، بل إن ما يصل للمواطن الغزي من الماء لا يتجاوز 2-3 ليتر يوميًا فقط وهي كميّة لا تكاد تذكر إذا ما تذكرنا أن الحد الأدنى الموصي به عالمياً حسب معايير منظمة الصحة العالمية البالغ 100 لتر في اليوم. 

هذا الاستهداف للمنشآت المائية يُعتبر جريمة حرب أخرى، يجب أن تتوقف فورًا وإلى الأبد، فالماء للجميع ولا يُعقل أن يكون سلاحًا ضد أحد! 

عمر عاصي

مستشار بيئي، درس اللقب الأول في مجال الهندسة البيئية بجامعة آخن في المانيا، ثم لقب ثاني بجامعة حيفا بتخصص إدارة بيئية

شاركونا رأيكن.م