تباين الظاهر والواقع في نظام إنفاذ القانون في إسرائيل

تتسمُ الأزمات الحروب والثورات أنها كاشفة السوء والشر والعنف في الذات الإنسانيّة، وتبرز أيضًا عن علاقات وتركيبات وبنى اجتماعية وسياسية كانت متخفية وراء جدران سميكة من السرديات عن الذات الجمعية تظهر الوجه الإيجابي وتخفي السلبي بتقنيات نفسية معقدة تستعمل بشكل ذكي، بوعي وبدون وعي، فتتحول هذه التقنيات ونتائجها إلى ثقافة أو صورة كل من يحاول كشفها يعتبر خارج عن المجموعة ومتصادم معها. في الأزمات هذه الجدران لا تصمد أمام اندفاع البركان الدفين الداخلي الذي يريد أن يعبر عن ذاته المكبوتة ليجد شرعية واحتضان كان المتخيل عن الذات في الأيام العادية يمنع الاعتراف بها رغم وجودها والتعبير المتضمن عنها (الثورات العربية نموذجًا).  

الفلسطينيون عموما وفي إسرائيل تحديدًا يعرفون هذا وعن قرب في الحالة الإسرائيلية أي حالة التناقض بين الظاهر الإسرائيلي المسيج بصورة مثالية عن الذات (حتى النقد الداخلي الذي كان يبهرنا، ولكنه يبقى في إطار إسرائيليّ ويخدم مصالحهم أيضًا) وبين الواقع أي التيارات الداخلية المتضمنة في دورة الحياة للدولة ومؤسساتها والغالبية فيها،  المبني على نظرة التفوق العرقي وبالتالي الاستحواذ على الدولة كأداة لتحقيق هذا التفوق وأيضا اعتبار الآخر (نحن) أقل قيمة على ما ينتج عن ذلك من عنصرية وكراهية تترجم إلى سياسات تجاهنا. 

الحرب على غزة وما يرافقها من تفاعلات داخل إسرائيل (أجهزة الدولة والمجتمع) إنما بمثابة البركان الذي حطم الجدران بين الظاهر والواقع بالحالة الإسرائيلية. وواقع الحالة الإسرائيلية الآن مشرعن داخل حالة من الانجراف الهستيري من العداء والكراهية ونزع الحالة الإنسانية عن الآخر الفلسطيني. لهذه الحالة تبعات مباشرة على مكانة الفلسطينيين داخل إسرائيل وتعامل مؤسساتها وبنيتها الاجتماعية والسياسية مع هذهِ المجموعة وأفرادها. ولعل مؤسسات إنفاذ القانون وافرادها والتي تقف على حدود التماس المباشر مع الأقلية الفلسطينية، هي الأكثر تأثرا وتأثيرا في هذه الحالة وترجمتها بالممارسة اليومية. 

إذا كيف نقرأ ملف إنفاذ القانون تجاه الفلسطينيين في إسرائيل؟ 

اليوم تعمل أجهزة إنفاذ القانون داخل دائرتين: الأولى، هي تنفذ سياسة الأغلبية متجسدة في الدولة، تجاه العرب. في هذا الإطار هي تعمل وفقا لبرامج وسياسات معلنة للدولة وأخرى مبطنة في جوهر علاقة الدولة التي تعلن نفسها كدولة اليهود، تجاه العرب. الأخيرة توجه مؤسسات وأفراد إنفاذ القانون بدون نصوص مكتوبة أو تعليمات واضحة. ولكنها مبثوثة في لا وعي المؤسسة والأفراد ويتم تنفيذها بالواقع المتعين بدون تساؤل. في السابق أي محاولة لنقد هذا الواقع وكشف العلاقة بينه وبين ازدياد الجريمة داخل فلسطينيي الداخل يواجه بالرفض والاتهام المباشر بالعداء للدولة والتجني عليها وعلى مؤسساتها.

الدائرة الثانية، وهي مرتبطة بالأولى، ولكنها تعطيها صراحة وشرعية. في هذه الدائرة تدخل مؤسسات إنفاذ القانون والشرطة تحديدا ليس كفاعل يمثل الأغلبية، بل كفاعل يمثل اليمين وبرنامجه تجاه الأقلية الفلسطينية. اليمين ليس كأحزاب وإنما اليمين كأفكار وتوجهات تحظى اليوم بشبه إجماع بكل ما يتعلق من خلال موضعتنا كخطر وأعداء محتملين. في هذه الدائرة يتم تجاوز التوازنات التي حافظت على شكلٍ سطحي من السياسات والتعامل "المهني" بين مؤسسات إنفاذ القانون والعرب، إلى الإعلان بشكل سافر عن حالة جديدة تختفي بها التوازنات التي تحكمها رغبة الدولة إلى حملات الشرطة المجحفة ضد العرب والاعتقالات بالجملة على أي تعبير سياسي وأخلاقي لا يندرج تحت سقف المسموح من وجهة نظر إسرائيلية معبأة، منع أي مظاهر للتعبير السياسي باستخدام قوات الشرطة وبعنف وتوزيع الأسلحة داخل المجمعات اليهودية والرسائل الملازمة لهذه العملية، كلها نزعت نهائيا ظاهر العلاقة مع العرب إلى تبني وشرعنة واقعها المضمر.

إن الخطورة في هذه الحالة أن هذا الوضع الجديد هو كونه ليس حالة مؤقتة تنتهي مع انتهاء الحالة التي أنتجتها، أي الحرب، بل أنها تحولت إلى حالة دائمة تتوغل وتتشرب داخل المؤسسات وأفرادها وخصوصا أن غالبية الأفراد وخصوصا على المستوى التنفيذي ينتمون، بنسب مختلفة، إلى اليمين ويتبنون أفكاره وتوجهاته. إن علاقة التفاعل بين المؤسسة والأفراد هي تبادلية وفي الحالة الإسرائيلية هي علاقة تبني وبناء أي أنها لا تقتصر على تبني أحد الطرفين لسياسة معينة، بل أن هذا التفاعل يبني بشكل فعلي هذه السياسات والتي لا تبقى فقط موضوعًا لواضع السياسات فحسب. 

إضافةً إلى أن نوع نضالنا وتعاملنا داخل السياسة الإسرائيلية للتأثير على عمل مؤسسات إنفاذ القانون كان موجها بالأساس ضد سياساتها على اعتبارها تحتكم إلى العقلانية في التعامل معنا وإن كانت عقلانية موجهة لإفادتها. بالمقابل، الجديد اليوم هو أن نضالنا يبدأ من حيث إن لاعقلانية المؤسسة واضحة وهي موجهة لها أي نزوعها إلى العنصرية والكراهية والإقصاء. إننا أمام حالة جديدة هي أكثر تعقيدًا من السابق توجب حالة جديدة من التعامل والمواجهة. 


تصوير: أورن زيف وموقع "سيحا ميكوميت".

المحامي رضا جابر

محام وباحث مختص بالقانون والسياسات العامة

شاركونا رأيكن.م