إسرائيل تهرول نحو ذروة الأزمة الدستورية

في هذا المقال المقتضب أطرح أمام القراء صورة بانورامية تحليلية للأزمة الدستورية الراهنة في دولة إسرائيل، ألوانها المختلطة ما بين القانون، الدستور، السياسة، المجتمع. إذ أن دولة إسرائيل تعاني مؤخرًا أزمةً دستورية، لم يكن لها مثيل منذ قيام الدولة. حيث باتت حدّتها في الأشهر الفائتة، مباشرة بعد تأسيس الحكومة الحالية، وعلى وجه الخصوص فور طرح خطاب وزير العدل، يريڤ ليڤين، والذي أدلى من خلاله ب "خطة الإصلاح القضائي"، على حدّ تعبيره. 

جذر الأزمة

وتعود جذور الأزمة الدستورية في إسرائيل إلى تقديم ثلاثة لوائح اتهام جنائية (الرشوة، والاحتيال، وخيانة الأمانة)، ضدّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. وفي حد ذاتها، تعد هذه الخطوة سابقة قانونية، كونها تهمًا تتعلق بأحداث جنائية قام بها نتنياهو، بحسب لوائح الاتهام، خلال ممارسة عمله كرئيس للحكومة. 

نظرًا إلى المنظومة الائتلافية في نظام الحكم الديمقراطي الإسرائيلي، وبناءً على مواقف مبدئية تتعلق بمسألة أخلاقيات المشاركة في حكومة يرأسها متهم في قضايا جنائية، أصبحت مسألة تشكيل الحكومة أمرًا في غاية التعقيد الدستوري، لينتهي الأمر بتشكيل حكومة يمينية (كاملة)، بعد عدة جولات انتخابية، أقصاها أربع جولات انتخابية خلال عام واحد، ناهيك عن مراحل انتخابية آنية، قصيرة الأمد، ممثلةً بحكومة نتنياهو-غانتس، وثم "حكومة التغيير"، كما تخلل انهيارات حزبية فيما يسمى بمعسكر المركز-اليسار. 

وفي خضم ذلك، شاهد المسرح السياسي سجالًا دستوريًا بشّر ظهور الأزمة الدستورية، بداية مع تعديل قانون أساس الحكومة من أجل حل الأزمة البرلمانية الانتخابية وتشكيل حكومة نتنياهو-غانتس، من خلال خلق مصطلح دستوري جديد "رئيس حكومة بديل". ومن ثم، من تقديم التماسات إلى محكمة العدل العليا بهدف منع بنيامين نتنياهو من إشغال منصب رئيس للحكومة، نظرًا الى كونه متهمًا في قضايا فساد جنائية، استنادًا إلى أسبقيات قضائية تجبر رئيسًا للحكومة إقالة وزير ونائب وزير إذا ما قُدمت ضدهم لوائح اتهام جنائية، كم بالحري إذا كان المتهم نفسه هو من يريد أن يشغل منصب رئيسًا للحكومة. 

وفي هذا المضمار الأخير قامت محكمة العدل العليا، بهيئة موسعة، مكونة من 11 قاضيًا، برفض الالتماسات، جملة وتفصيلًا، منوهةً أنه ورغم امتعاضها، العام، من "ترشيح" نفسه لمنصب رئيسا للحكومة، إلا أنه ووفق المنظومة القانونية السائدة في إسرائيل، تنعدم المحكمة الآليات الدستورية المطلوبة لمنع نتنياهو من إشغال منصب رئيسًا للحكومة، حتى وإن كان متهمًا في قضايا جنائية خطيرة. 

إنشاء حكومة يمين بالكامل

على أية حال، مع تشكيل الحكومة الحالية - يمينية وضيقة - ومع تعيين عضو البرلمان الليكودي يريڤ ليڤين لمنصب وزير القضاء، بات الأمر واضحًا أن هجوم رئيس الحكومة نتنياهو -عشية تقديم لوائح اتهام جنائية ضده- الموجهة نحو السلطة القضائية، مؤسسة النيابة العامة، ومؤسسة الاستشارية القانونية للحكومة، متهمًا إياهم بالملاحقة السياسية، ما هي إلا بداية خطة عمل فعلية، واسعة النطاق، لتجريد السلطة القضائية، ممثلة بمحكمة العدل العليا، من استقلاليتها، وتقزيم مكانة حراس البوابة -بما في ذلك المستشارة القانونية للحكومة- وتحويلهم إلى موظفين "صغار"، لا قدرة لهم ولا سلطة على مراقبة قانونية ودستورية العمل البرلماني والحكومي. 

وفعلًا، مباشرةً بعد تعيينه وزيرًا للقضاء قام يريڤ ليڤين بطرحه "خطة الإصلاح القضائي"، حسب تعبيره، كمرحلة أولى، والتي تتضمن، سنّ فقرة التغلب، لفتحِ الباب أمام السلطات السياسية للتغلب، بأغلبية برلمانية بسيطة، على قرارات محكمة العدل العليا، إبطال حجّة المعقولية، لكبحِ جناح المحكمة من فرض رقابتها القضائية على السلطة التنفيذية، ممثلة بالحكومة، تقزيم مكانة المستشارة القانونية للحكومة، لتصبح قراراتها غير ملزمة للحكومة، وإعادة هيكلة لجنة انتخاب القضاة، لمنح السلطات السياسية حق النقض (الفيتو) من أجل فرض سيطرتها على هوية القضاة المنتخبين، لا سيّما القضاة المنتخبين لمحكمة العدل العليا. 

لقد لاقت هذه الخطة انتقادًا لاذعًا، على المستوى المحلي والدولي، مع الاشارة إلى أن من شأنها تحويل نظام الحكم في إسرائيل من نظام ديموقراطي إلى نظام دكتاتوري. وتمثّل النقد المحلي باحتجاجات شعبية واسعة النطاق، وصلت ذروتها الى إعلان الاضراب الشامل عشية إقالة رئيس الحكومة لوزير الأمن الاسرائيلي، حين قام الأخير بتصريح إعلامي من شأنه تهدئة الأجواء العامة ووقف "خطة الإصلاحات" بهيئتها المطروحة. 

وكان لحادثة إقالة وزير الدفاع وقعًا خاصًا، ليس فقط كما أسلفت أعلاه، إنما أيضا على الصعيد العملي، حيث قامت الحكومة، ورئيسها على وجه الخصوص، بتجميد "خطّة الإصلاحات"، على أقلّ تعديل كرزمة شاملة كما طُرحت في بداية الطريق، لينتهي الأمر بقرار حكومي للتقدم خطوةً تلو الأخرى في تمرير بنود من "خطة الإصلاح"، كل على حدة، ابتداء بإبطال حجّة المعقولية، بالموازاة مع قرار وزير القضاء استخدام صلاحيّته بعقد لجنة انتخاب القضاة، والتي يرأسها هو، من أجل الانتظار إلى حين يستطيع تعديل تركيبة اللجنة ليتسنّى له السيطرة على اللجنة وفي نهاية الأمر تعيين قضاة محافظين، خصوصاً في محكمة العدل العليا، بما في ذلك السيطرة على هوية الرئيس القادم للمحكمة، خلفاً للقاضية استير حايوت. 

وفعلا، قامت الحكومة بتمرير أول تعديل قانوني بنجاح، ألا وهو تعديل لقانون أساس السلطة القضائية، والذي ينصّ على أن لمحكمة العدل العليا لا توجد صلاحية لمراقبة السلطة التنفيذية استنادا إلى حجة المعقولية. لا بل أكثر من ذلك، تُمنع المحكمة من مراقبة السلطة التنفيذية إذا ما أرادت الاخيرة أن لا تمارس صلاحياتها حسب القانون. 

وكان ردّ السلطة القضائية لهذا التعديل القانوني مفاجئا نوعًا ما، حيث أصدرت المحكمة أمراً احترازيا يجبر البرلمان والحكومة الرد جوهريًا على الالتماسات المذكورة أعلاه، وقررت رئيسة المحكمة أن هيئة قضائية موسعة مكونة من كافة قضاة المحكمة (15 قاضيًا) ستنظر في الالتماسات، وهذا في حد ذاته سابقةً قضائية (على الأقل منذ أن أصبح عدد قضاة المحكمة خمسة عشر قاضيًا، وبث مداولات المحكمة في بث حي ومباشر للجمهور. وتدور هذه الالتماسات حول قدرة المحكمة على إبطال قانون أساس كونه يحظى بمكانة قانونية دستورية.

بموازاة مع ذلك، قرر وزير القضاء، كما أسلفت أعلاه، الامتناع عن عقد لجنة انتخاب القضاة، والتي يرأسها هو، كمناورةً من جهته حتى يتسنى له تمرير تعديل قانوني، يغيّر بموجبه تركيبة اللجنة، حيث تكون له وللسلطات السياسية القدرة الكاملة والشاملة على السيطرة على اللجنة وعلى قراراتها، فينجح في تعيين قضاة محافظين خلفًا لقضاة يُعتبرون ليبراليين، بما في ذلك رئيسة المحكمة العليا، واللذين سيخرجون للتقاعد مع وصولهم إلى جيل 70 في الأشهر المقبلة. 

وفي هذا المضمار يحاول وزير القضاء منع القاضي يتسحاق عميت -المحسوب على القضاة الليبراليين- من استلام منصب رئيس محكمة العدل العليا، خلفاً للقاضية استير حايوت، من خلال إبطال نهج دستوري قديم الأمد والمسمى "مبدأ الأقدمية"، بموجبه تختار لجنة انتخاب القضاة القاضي الأقدم من بين قضاة المحكمة ليترأس المحكمة، لتفادي الرابط السياسي بين قضاة المحكمة والسياسيين، وعلى رأسهم وزير القضاء. 

وأيضًا في هذا المضمار قامت المحكمة بإصدار أمرٍ احترازي، ردًا على التماسات قد طُرحت أمامها، ضدّ وزير القضاء، تجبره أن يعلّل للمحكمة أسباب قراره بعدم  عقد لجنة انتخاب القضاة. وفي خطوة لا سابقة لها في القضاء الاسرائيلي، قام وزير العدل بتقديم طلب للمحكمة يطالبها بإبطال الأمر الاحترازي بذريعة أن لا صلاحية للمحكمة لإصدار هذا الأمر.

وتأتي كل هذه الالتماسات والمداولات القانونية بالتزامن مع التماسات أخرى تطلّب من المستشارة القانونية للحكومة ومن محكمة العدل العليا إصدار أمر ضدّ بنيامين نتانياهو والإعلان عنه كمن يتعذر عليه إشغال منصب رئيس للحكومة لتضارب المصالح كونه متهمًا في قضايا جنائية من جهة ويدير خطة حكومية للمس باستقلالية السلطة القضائية، كونه رئيسا للحكومة، من جهة أخرى.

بغضّ النظر عما ستدلي به محكمة العدل العليا من قرارات في كل هذه القضايا، فإن إسرائيل تهرول نحو ذروة الأزمة الدستورية. فمن جهة، هناك تخوّفات جديّة من عدم احترام قرارات المحكمة والانصياع لأوامرها من قبل الحكومة ووزرائها، لا بل أكثر من ذلك التهجم عليها والمسّ بها وبقضاتها من قبل الجماهير المؤيدة لـ "خطة التعديلات القضائية". ومن جهة أخرى، هناك تخوفات جديّة أخرى من ازدياد حدّة الاحتجاجات المناهضة لـ"خطة التعديلات القضائية"، حتى وإن أدى الأمر للمسّ بالنظام العام والإخلال به.

على أية حال، النقاش الحقيقي والاحتجاج الجماهيريّ لا يقتصر على كون طرح الحكومة خطّة للإصلاحات القضائية أو انقلابًا على سلطة القانون، إنما سجالًا تاريخًا حول ماهية النظام الديمقراطي في إسرائيل، والعلاقة بين السلطات السياسية والسلطة القضائية. 

وفي حال دخلت إسرائيل نفق الأزمة الدستورية، فإن ذروتها لا تزال أمامنا.


الصورة من موقع مؤسسة "شتيل".

بروفيسور محمد وتد

عميد كلية الحقوق في الكلية الأكاديمية صفد وباحث زائر في معهد منيرڤا لسلطة القانون في ظروف قصوى بجامعة حيفا


شاركونا رأيكن.م