خمسون سنة على حرب أكتوبر: إسرائيل قلقة من تعاظم قوّة الجيش المصري
تصادف هذا الأسبوع الذكرى الخمسون لحرب أكتوبر 1973، أحيتها الدولة الصهيونية بسلسلة من المؤتمرات والندوات والفعاليات، وسمحت الرقابة العسكرية بنشر وثائق مختلفة تتعلّق بالحرب وملابساتها والنقاشات الداخلية في القيادة السياسية والأمنية. وعادت إلى المقدمة التعابير والمصطلحات التي التصقت بتلك الحرب مثل: المفاجأة الهائلة، الحرب الأصعب، مجزرة المدرّعات، الهزّة الكبرى، فشل المخابرات، الخسائر الفادحة، التقصير الكبير وغيرها. وجرت خلال النقاشات في المؤسسات والمنصّات المختلفة في الدولة الصهيونية محاولات لإعادة تقييم ما حدث، ومحاولة استخلاص العبر.
وناقش المناقشون دور شخصيات مثل غولدا مئير رئيسة الوزراء الإسرائيلية خلال الحرب، فهاجمها البعض ودافع عنها آخرون. ولم يسلم موشية ديّان من النقد بسبب نشر الغرور والاستهتار بقوّة العرب. وجرت محاولة «رد اعتبار» لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، الذي اتهم بالتباطؤ في تفعيل القطار الجوّي المصيري، الذي أمد إسرائيل بالأسلحة والذخيرة. وقال المدافعون عن كيسنجر إنّ هناك وثائق تثبت بأنه طالب بالاستعجال في تزويد إسرائيل بالأسلحة التي تريد، وحتى أنّه ضغط على غولدا مئير «المنهكة والمحبطة» ألا توافق على وقف إطلاق نار في اليوم الخامس للحرب لأن ذلك يعني ـ كما قال – وقف الحرب بخسارة إسرائيلية في الجولان وسيناء.
المسكوت عنه
عادت النخب الإسرائيلية خلال الأسبوع المنصرم إلى طرح السؤال: هل من الممكن أن تعود المفاجأة؟ هل يتكرر التصوّر الخاطئ لقوّة ونوايا «العدو»؟ هل إسرائيل على عتبة «إخفاق» جديد؟ وتحدثت الغالبية الساحقة من المساهمين في النقاش عن سيناريو «الحرب متعدّدة الجبهات»، وعن ضرورة تكثيف وتسريع الاستعداد له وقال بعضهم بصريح العبارة إن إسرائيل ليست جاهزة للحرب، وجرى الحديث عينيا عن مواجهة متعددة الجبهات، لبنان وسوريا والضفة وغزّة. وساد في المداولات إجماع بأنها لا تشكّل خطرا وجوديا. هنا تدخّلت أصوات نقدية وتساءلت: ماذا لو تدخّلت مصر؟ أليس دخولها في الصراع هو «قلب للموازين»؟ وما الذي يضمن عدم تدخّل مصر في حال نفّذت إسرائيل جرائم كبرى مثل تهديد وزير الأمن الجنرال المتقاعد يوآف غلانت، بإعادة لبنان إلى العصر الحجري؟
تمتنع القيادات الأمنية والسياسية الإسرائيلية عن الحديث عن مصر في سياق مواجهة عسكرية فهذا من المسكوت عنه، ومن النادر أن تجد، في الخطاب الرسمي أو المركزي غير الرسمي، تطرّقا لقوّة مصر العسكرية ولإمكانية حرب معها، لكن هناك انتقادا من خارج المؤسسة للصمت تجاه تعاظم قوّة الجيش المصري، وتعبيرا عن استياء من إسكات النقاش في هذا الموضوع. وعلى سبيل المثال نشر عامي روحقا دومبا، مقالا في المنبر الأمني المهم «إزرائيل ديفينس»، شكا فيه من إسكات أي تطرّق لقوّة ونوايا الجيش المصري، وبالأخص للأسلحة الصاروخية التي في حوزته. وحذّر اللفتنانت كولونيل احتياط، «إيلي ديكيل» من المخاطر المحتملة لعدم فتح «نقاش علني حول مخاطر تعاظم قوّة الجيش المصري، والنوايا المبيّتة التي تكشفها البنى التحتية الهجومية، التي يقوم بتشييدها في سيناء وعلى طول قناة السويس».
صحوة العملاق
السؤال الكبير، الذي يقلق الإسرائيليين هو لماذا تقوم مصر بتطوير جيشها بهذا الشكل؟ وضد من يجري إعداد كل هذه القوّة العسكرية الضخمة والمزوّدة بالأسلحة الحديثة؟ وهل من الممكن في يوم ما وفي ظرف ما أن تحدث مواجهة عسكرية بين مصر وإسرائيل؟ هل الجيش المصري يستطيع؟ هل يريد حاليا أو قد يريد مستقبلا؟ أم أن الإرادة ستأتي بعد توفّر القدرة؟ وصف مقال نُشر في موقع مؤسسة «كارنيغ» الأمريكية المعروفة ما يحدث في القوات المسلحة المصرية في السنوات الأخيرة، وجاء بعنوان: «الجيش المصري: صحوة العملاق»، وخلاصته أنّه وبعد عشرات السنين من الركود باتت القوّات المسلّحة المصرية تشهد تطوّرا ملحوظا. ويتّضح معنى هذا الكلام أكثر عند مراجعة ما تنشره المواقع العالمية المتخصصة بالقوّة العسكرية للدول. ونجد في موقع مؤسسة «غلوبال فاير- باور» ترتيبا للدول حسب قوّتها العسكرية، ويستند الترتيب الى القوى البشرية والأسلحة والعتاد والموارد الطبيعية، وحالة الاقتصاد وعوامل أخرى تصل إلى أكثر من 60. ووفق هذا الترتيب، الذي هو الأهم في العالم، تحتل مصر عام 2023 المرتبة 14، من بين 145 دولة. وللمقارنة نجد تركيا في المرتبة 11 وإيران في المرتبة 17 وإسرائيل في المرتبة 18. وفي الموقع نفسه يمكن إجراء مقارنة تفصيلية في القوة العسكرية، وتُظهر المقارنة أنّ عدد القوّات الفاعلة في القوّات المسلحة المصرية يصل الى 440 ألفا مقابل 173 ألفا في إسرائيل. والمفاجأة أن قوات الاحتياط هي بالعدد نفسه تقريبا: 480 ألفا في مصر مقابل 465 ألفا في إسرائيل. أمّا القوّات شبه العسكرية فهي 300 ألف في مصر وحوالي 8 آلاف فقط في إسرائيل.
من ناحية العتاد، تمتلك مصر 1069 طائرة مقابل 601 عند إسرائيل، وهي تشمل لدى مصر 245 طائرة مقاتلة ولدى إسرائيل 241. وعند الجيش المصري 4664 دبّابة وإسرائيل 2200 دبّابة. وعدد المركبات العسكرية في مصر هو 77596 وفي إسرائيل 56290. أما راجمات الصواريخ فعددها في مصر 1575 وفي إسرائيل 300. ومن ناحية القوة البحرية فمصر اليوم في المرتبة 12 عالميا ولديها 245 قطعة بحرية، وإسرائيل في المرتبة 40 ولديها 67 وحدة بحرية. ووفق المعطيات التي نشرها الموقع فإن الميزانية العسكرية الإسرائيلية هي 24.3 مليار دولار مقابل 4.3 في مصر. (الميزانية العسكرية الإسرائيلية الجديدة تصل إلى 34 مليار دولار، بما يشمل المخابرات). ما يقلق إسرائيل، ليس الأرقام المطلقة فحسب، بل ولربما أكثر هو حصول القوات المسلحة المصرية على أسلحة متطوّرة وحديثة وفتّاكة ومن مصادر مختلفة. ووفق المعطيات التي نشرها «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، فإن مصر هي الدولة الثالثة في العالم من حيث استيراد الأسلحة في العقد الأخير، أي في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ عام 2013. ونجد في القائمة الهند في المكان الأوّل والسعودية في المكان الثاني، وقطر في الموقع السادس والإمارات في السابع والجزائر في التاسع، أي أن العرب يحتلون خمسة من المواقع العشرة الأوائل عالميا في استيراد الأسلحة. وهنا يطرح السؤال: أليس أوفر وأنجع وأفضل لدول الخليج أن تستثمر في الجيش المصري ليقوم هو بحمايتها والحفاظ على أمنها في إطار مفهوم شامل للأمن القومي العربي؟ لقد بلغ الاستيراد المصري للأسلحة في العقد الأخير حوالي 13 مليار دولار، وجاء من مصادر متعدّدة: فرنسا 28%، روسيا 27%، الولايات المتحدة 16%، ألمانيا 12%، إيطاليا 10% والبقية من مصادر أخرى. وتشمل قائمة الاستيراد أحدث الدبابات والطائرات الروسية، وطائرات رفائيلا الفرنسية، ودبابات وطائرات إف 16 أمريكية وغوّاصات ألمانية، وقد أثارت هذه الأخيرة ضجة كبيرة في إسرائيل بسبب عدم العمل على منع بيعها لمصر.
قلق إسرائيلي
تتحدث مصادر إسرائيلية أيضا عن البنى التحتية وتستند إليها في تحليل النوايا. وتشير هذه المصادر إلى أن عدد المعابر على قناة السويس كان عام 2004 ستة معابر واليوم هي 60 معبرا معظمها عسكرية. وكذلك تشير هذه المصادر إلى ارتفاع عدد المطارات ليصل إلى 45 مطارا عسكريا. وتذكر أيضا حفر أنفاق عملاقة في سيناء تصلح لتخزين أسلحة استراتيجية وإلى أقبية ضخمة في منطقة السويس معدة لتخزين الصواريخ والأسلحة الثقيلة، وكذلك حذّرت هذه المصادر من تطوّر سلاح الصواريخ ونشرها في المناطق الواقعة بين القاهرة وقناة السويس. كما يجري طرح السؤال: لماذا لم تنسحب القوّات المصرية، التي دخلت سيناء للقضاء على الإرهاب، بعد أن أنهت مهمّتها؟
تحاول الدولة الصهيونية أن تخفي قلقها من تعاظم قوّة الجيش المصري، لكنّ هذا القلق يتسرّب بأشكال متعدّدة، هنّاك اتفاق في إسرائيل بأن قوّة الجيش المصري تضاعفت في السنوات الأخيرة، فقد ازداد عددا وتزوّد بأسلحة عصرية متقدمة، وأغلبية النخبة الأمنية لا ترى في القوة العسكرية المصرية تهديدا في المدى القريب، ولذا هي لا ترد في الحسبان عند الحديث عن حرب متعددة الجبهات. لكن السؤال المحيّر والمرعب بالنسبة لهذه القيادة هو هل هناك حالة مستقبلية قد تؤدّي إلى دخول الجيش المصري في مواجهة مع إسرائيل؟ ويذهب محللون إسرائيليون إلى أن الجيش المصري يسير بخطى حثيثة للوصول الى توازن استراتيجي مع إسرائيل، وأنه لا توجد قوّة في المنطقة تستلزم مواجهتها كل هذا التضخّم في قدرات القوات المسلحة المصرية سوى الدولة الصهيونية. وتترجم إسرائيل قلقها إلى مطالب عينية من الولايات المتحدة: أولا، حق الفيتو على بيع أسلحة معيّنة لمصر، ثانيا، أن تقوم الولايات المتحدة بالسيطرة على سوق السلاح في الشرق الأوسط عموما لضمان بقاء الأمور تحت الرقابة والسيطرة، ثالثا، أن تسعى الولايات المتحدة للحصول على عيّنات من الأسلحة غير الأمريكية لفحصها بادعاء أنها موجودة عند إيران، ورابعا وهو الأهم تطلب إسرائيل من الولايات المتحدة تعويضها بأسلحة متقدمة لضمان استمرار تفوّقها العسكري في المنطقة.
إسرائيل أصلا لا تريد أن تكون قوى إقليمية أخرى في المنطقة.. لكنّها لن تستطيع ان تفرض ما تريد. وستضطر إلى ضبط نفسها في ظل وجود القوى الإقليمية الثلاث الكبرى: تركيا ومصر وإيران. والصحيح أن تتعاون هذه القوى الثلاث بمشاركة دول عربية أخرى، بما فيه صالح المنطقة ولجم الانفلات العدواني للدولة الصهيونية. وأخيرا، لا بد من التذكير بأن أكثر ما يزعج إسرائيل هو إدراكها بأن جنود وضبّاط الجيش المصري يناصبونها العداء بعمق.
عن موقع "القدس العربي".