إسرائيل تعيد ترميم "الرواية"... ضد الفلسطينيين

تل أبيب ومعركة "هندسة الوعي"

في موازاة الحرب على غزة، والتي تتصدر وسائل الإعلام العربية والعالمية منذ اندلاعها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تدير إسرائيل معركة داخلية وخارجية من أجل إعادة هندسة الوعي العالمي والإسرائيلي والعربي من خلال جهود جبارة لإعادة ترميم الرواية التاريخية بالنسبة للصراع، وجعل هذه الرواية أداة في معركة طويلة الأمد لم تنفك أبدا منذ بداية المشروع الصهيوني والتطلع لإقامة دولة يهودية في فلسطين التاريخية.

تسعى الأمم عموما إلى تشكيل الوعي الداخلي لديها، والتصورات عن حقها في الوجود من خلال بناء رواية تحاول تفسير وتبرير سعي الدولة أو الأمة التي تقف من ورائها للحصول على الاستقلال أو حتى التوسع والسيطرة على الأمم الأصلية أو تلك المجاورة لها، وفي ذلك كتبت ونشرت الأبحاث والدراسات الكثيرة، وفي كل لغات العالم. هنا أستشهد على سبيل المثال بأكثر الكتب والدراسات شيوعا وتأثيرا في العالم، لعالم السياسة في جامعة كورنيل بنديكت أندرسون (1936-2015) في كتابه "المجتمعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها" الصادر عام 1983 والذي تُرجم إلى العربية سنة 2009، والذي يعتبر مرجعا أساسيا في دراسة الظاهرة القومية وتفسيرات تطلعها إلى ما اعتدنا على تسميته بـ"حق تقرير المصير"، حيث قدم شرحا للفكرة القائلة بأن الأمم والجماعات الوطنية، كما الدول، هي كلها نتيجة لجهود "خلق" الجماعة وتشكيلها. وفي سياق تقديمه أكد على أهمية ثلاثة مركبات في عملية "الخلق" وهي "الإحصاء السكاني، والخريطة الجغرافية، والمتحف الوطني" وكلها بالطبع أدوات استعملها آباء الحركات الوطنية ومروجوها، بما في ذلك الأدوات التي استحدثتها الدول الحديثة لأجل بناء الرواية أو السردية التي تساهم في تخليق الوعي لدى الجماعة المعنية وكل من يهتم بها، في سياق تبرير الجماعة والدولة لسياساتها وتطلعاتها الاستراتيجية، بما في ذلك حروبها وجرائمها ضد الآخرين، الأصليين أو الجماعات المجاورة لها، والتي تتطلع هي الأخرى إلى السيطرة على الحيز الذي تدعي الجماعة أو الدولة أنه من حقها، وحق أبنائها، ولا يجوز أن تسيطر عليه الجماعات التي تنافسها في البقعة أو الأرض نفسها.

سعت الصهيونية في سياق تبرير استيلائها على فلسطين إلى تسويق جملة من الادعاءات والأساطير(myths) تتعلق بتصدير فكرة العلاقة التاريخية الخاصة لليهود بفلسطين، وفكرة خلو الأرض من شعب من خلال اختلاق مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، كما لكون الفلسطينيين في غالبيتهم مهاجرين إلى "فلسطين" من دول عربية، بالإضافة لأفكار تتعلق بما سوف تلحقه في فلسطين من ازدهار وتطوير للأرض وللناس فيها، وهلم جرا من الادعاءات التي سبقت إقامة إسرائيل والنكبة.

ولم تتوقف إسرائيل عن تصدير الادعاءات والأساطير حول العلاقة مع الفلسطينيين وفي محاولة لتشوية نضالاتهم بعد قيامها؛ فقامت ببلورة مدروسة لعدة ادعاءات وأساطير وقامت بتسويقها داخليا وخارجيا في معركتها ضد الشعب الفلسطيني، وقد كتب عن ذلك الكثير، لكن أهمها تتركز في تسويق فكرة أن الفلسطينيين لم يهجروا بالقوة من وطنهم خلال النكبة، وبأن النضال الفلسطيني يتطلع إلى طرد اليهود من البلاد أو الاعتداء عليهم بصفتهم يهودا، كما تسويق ادعاء "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" وتعاملها "المنصف" مع مواطنيها الفلسطينيين، وتلا ذلك الترويج بأن إسرائيل هي الضحية وليست المعتدي في حالات الصدام، بما في ذلك بأنها لم تباشر بهجوم حرب 1967، وأنها كانت مضطرة لاحتلال أراض عربية آنذاك. 

في المقابل ساهمت كتابات فلسطينية وعربية وعالمية، بما في ذلك لباحثين إسرائيليين مهمين يعرفون عادة "بالمؤرخين الجدد"، في تفنيد الأساطير الإسرائيلية ورفضها، وفي توفير أرضية علمية صلبة لدحض الادعاءات الإسرائيلية. واستطاعت هذه الجهود أن تحدث تغييرا كبيرا في الجامعات وفي النقاش الشعبي والإعلامي حول إسرائيل وأكاديمييها وزيف غالبية ادعاءاتهم وأساطيرهم المجندة.

ومن أهم المساهمين في ذلك، والذي تعتبر كتاباته من أهم المراجع في تفنيد الرواية والأساطير الإسرائيلية أستاذ التاريخ في جامعة إكستر، إيلان بابيه، وهو مؤرخ إسرائيلي اضطر قبل أكثر من عقدين ونصف إلى ترك جامعة حيفا الإسرائيلية بسبب آرائه وطروحاته العلمية بالنسبة "لتلفيق التاريخ" من قبل إسرائيل وجامعاتها وكتب التدريس فيها، حيث نشر عشرات الدراسات التي تؤكد أن إسرائيل تسعى إلى "هندسة الوعي" في كل مناسبة، وعلى خلفية كل تطور تاريخي في علاقتها بالفلسطينيين، في مسعى واضح لتشكيل وعي داخلي لدى شعبها وخارجي لدى الآخرين، بما في ذلك لدى الفلسطينيين أنفسهم، لتبرير تعاملها معهم ولدعم شرعية وجودها، بما في ذلك لتبرير قيامها بطردهم وتشريدهم وقتلهم أو التضييق عليهم. 

وقد لخص بابيه أهم الأساطير الإسرائيلية المستحدثة منذ عام 1948 في كتابه "عشر أساطير حول إسرائيل" (TEN MYTHS ABOUT ISRAEL)  الصادر عن دار نشر "فيرسو" (Verso) سنة 2017. وفيه وثق بابيه عشر أساطير محورية حول القضية الفلسطينية تسعى إسرائيل للترويج لها، وهي جملة من المغالطات المقصودة التي تصدرها إسرائيل الرسمية والأكاديمية الإسرائيلية قصدا، ومع معرفة مسبقة بكونها مبنية على تشويه الحقيقة لمنع المتابع من فهم جذور الصراع وتطوراته، وهي بذلك تحاول هندسة الوعي لتبرير تعاملها مع الفلسطينيين، بما في ذلك كل الإجراءات الوحشية التي تنفذها بحقهم منذ أكثر من قرن، وصولا إلى تطورات متأخرة ترافقت مع "عملية أوسلو" واستمرار إسرائيل في التنكر لحق الشعبي الفلسطيني في وطنه، بما في ذلك الإجراءات الإسرائيلية بحق غزة وأهلها منذ الانسحاب أحادي الجانب عام 2005، واختلاق فكرة أن غزة ليست تحت احتلال إسرائيلي، بشكل مناف للحقيقة وللتطورات على الأرض.

طبعا لم تصل بعد أبحاث بابيه أو غيره من المهتمين بالموضوع في سياق اختلاق الأساطير الإسرائيلية إلى تطورات حرب غزة الحالية، والتي تدخل أيضا في باب تشكيل الأساطير بشكل مكثف في سياق الجهود الإسرائيلية المترافقة للقتل الوحشي واستهداف الغزيين وحياتهم بشكل غير مسبوق؛ فقد انبرى الساسة الإسرائيليون وتبعهم الإعلام المجند والجامعات والأكاديميون، وحتى مروجو المضامين في صفحات "فيسبوك"، و"تويتر"، و"إنستغرام"، في ترويج لجملة من الأفكار، سبقت في غالبيتها العمليات العسكرية، في سبيل الترويج لادعاءات وأساطير تسهل على إسرائيل معركتها الحربية والترويج لرؤيتها، بما في ذلك جرائمها غير المسبوقة ضد المدنيين. 

من أهم ما روجت له إسرائيل هي فكرة "فرادة" هجوم "حماس"، و"الجهاد" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واعتباره بداية جديدة و"نقطة صفرية" في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي بذلك تحاول التنصل من مسؤوليتها ودورها في التسبب بحالة اليأس لدى الغزيين من إمكانيات تغيير أوضاعهم قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. فكما هو معروف، قامت إسرائيل بمحاصرة غزة وأهلها منذ الانسحاب أحادي الجانب عام 2005، كما تحكمت في إدخال المواد الغذائية والمنتجات الأساسية لقطاع غزة. وعمليا جعلت من قطاع غزة سجنا كبيرا تتحكم فيه من خلال تطويق كل الطرق إليه، كما استهدفت عن بعد نشطائه، بما في ذلك عدد من نشطاء المجتمع المدني المنادين بالنضال غير العنيف لأجل كسر الحصار الإسرائيلي تحديدا أو الداعين إلى حلول سلمية معها.

حتى إن عالم السياسة اليهودي الأميركي في جامعة بنسلفانيا، أيان لوستيك، ذهب في مقال مبكر بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى اعتبار الحدث "حركة تمرد" من السجناء (الفلسطينيين) ضد السجان (الإسرائيلي)، بما في ذلك ما تخللها من جوانب عنيفة وغير إنسانية من نقمة السجناء ضد من سجنهم وتفنن في معاقبتهم وإذلالهم خلال فترة تحكمه فيهم.

وفي المقابل، لا يمكن تصديق فكرة أن العملية العنيفة التي قامت بها "حماس"، هي حالة استثنائية من حيث السياق النضالي الذي تبعته "حماس" منذ تأسيسها وإن كان الشكل وحجم الهجوم وجرأته غير مسبوقة، مما دفع كثيرا من المعلقين الإسرائيليين إلى اعتبار هجوم "حماس" أكبر عملية عسكرية فلسطينية ناجحة ضد أهداف إسرائيلية منذ 1948. 

ومع الرفض المبدئي للتعرض للمدنيين، بما في ذلك الإسرائيليين، ورفض التنكر لحجم الخسائر المدنية في الجانب الإسرائيلي، بما في ذلك خلال هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول في "غلاف غزة"، فإنه لا يمكن التنكر كذلك إلى معلومات أشارت إليها تقارير إسرائيلية، وتفيد بأن عددا لا بأس به من القتل وحرق المنازل كان نتيجة للهجوم الإسرائيلي المضاد على قوات "حماس" و"الجهاد" التي وجدت في مستوطنات "غلاف غزة" وتم استهدافها بالطائرات والمدافع والدبابات الإسرائيلية مما أدى إلى إصابات وحرق منازل وقتل إسرائيليين احتجزتهم قوات "حماس" و"الجهاد" ولم تستطع أخذهم إلى غزة قبل بدء قوات الأمن الإسرائيلية بالهجوم المضاد.

بالإضافة إلى ذلك، فقد استخدمت إسرائيل إعادة تسويق فكرة انسحابها من غزة، وأن قطاع غزة لم يكن بعد الانسحاب أحادي الجانب عام 2005 جزءا من الأراضي المحتلة، وأن اعتبارات "حماس" وعموم الفصائل في غزة في التحرر من الاحتلال ليس لها ما يبررها، كل هذا في محاولة إسرائيلية لإنجاز مهمتين: الأولى، الفصل بين ممارساتها في القدس والضفة وتجاه عموم الفلسطينيين وبين غزة وأهلها وأوضاعهم. وثانيا، في محاولة للتقليل من وطأة حصارها وممارساتها كدولة احتلال في غزة ذاتها. وهي بذلك حاولت، ولا زالت، تصور نفسها كضحية لاعتداء فلسطيني متواصل، ومن غزة تحديدا هذه المرة، وذلك رغم قيامها بخطوات للوصول إلى سلام وتفاهم مع الفلسطينيين عموما، ومع غزة والغزيين بشكل محدد، والحقيقة هي بالتأكيد أنها تقوم بمحاولة منافية للوقائع على الأرض، وللممارسات الإسرائيلية المستمرة منذ النكبة، والتي لم تتوقف عنها لحظة واحدة بشكل جدي وشامل.

وبالأساس يمكن التدليل إلى عمليات التطهير العرقي والطرد، المترافق لعمليات استهداف الناس والمؤسسات والأملاك بشكل غير مسبوق في التعامل مع الفلسطينيين خلال الحرب الحالية في غزة أو ما يحدث من استهداف للفلسطينيين في الضفة والقدس، كدلالة واضحة تشير إلى ما حاولت الرواية الإسرائيلية إنكاره تباعا حول حقيقة اتباع القوات اليهودية خلال النكبة وإسرائيل بعد قيامها، بما في ذلك ميليشيات المستوطنين في الضفة والقدس والنقب، عمليات ممنهجة من التطهير العرقي للفلسطينيين، في سبيل تقوية الديموغرافيا اليهودية والسيطرة نهائيا على فلسطين التاريخية.

ويترافق ذلك مع تعرية كاملة لمقولة التزام إسرائيل بالسلام مع الفلسطينيين، ومسيرة أوسلو وطريقها كأداة لإنهاء الاحتلال، ولفكرة "حل الدولتين"، التي تحولت إلى أداة لديمومة حالة الاحتلال والتحكم بالفلسطينيين، ولو من خلال أدوات مساعدة لإسرائيل، أهم تمثيلاتها الآن هي سلطة رام الله وقواها الأمنية وما تقوم به من مساندة لإسرائيل في إسكات الفلسطينيين في الضفة الغربية والتحكم فيهم.

منذ بداية المواجهة الحالية بداية أكتوبر/تشرين الأول السابق تتم التوجيهات الإسرائيلية وجهود ترميم الرواية وعموم الأساطير التي ثبت بطلانها، بشكل مكثف وعلى مدار الساعة، لأن إسرائيل الرسمية والشعبية ومؤسساتها الأكاديمية وإعلامها المجندين في سبيل إخضاع الفلسطينيين، تدرك أهمية الأساطير والرواية في جهودها ضد الفلسطينيين ولأجل كسب إجماع داخلي ودعم خارجي، رسمي وشعبي، وهي تقوم بذلك وفي "عقلها" الواعي واللاواعي إدراك عميق بأن ذلك لن يكتب له النجاح في نهاية المطاف، لأن الحقائق بينة وواضحة وتبث يوميا على آلاف أو مئات آلاف المنصات، ولأن للحقيقة فرسانا، مثل إيلان بابيه، والمئات من خيرة الأكاديميين والصحافيين والإعلاميين وصانعي المحتويات على منصات التواصل الاجتماعي، والذين لم تعد إسرائيل وحلفاؤها قادرين على احتوائهم أو إرهابهم من خلال الإشاعات أو الإغراءات المالية، فالحقيقة أهم من كل مخيال أو تشويه مخيال ومهما بذل ويبذل من جهود لتشويهها.

عن موقع المجلة.


الصورة: للمتحدث باسم الجيش الاسرائيلي دانيئيل هغاري، القناة 13 (تصوير شاشة).

بروفيسور أسعد غانم

محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا وعضو "ملتقى فلسطين"

رأيك يهمنا