"عسكرة" الإعلام الإسرائيلي في الحرب
أربعة أشهر، تقريباً، مرّت منذ بدء الحرب ولا يزال الإعلام الإسرائيليّ يتجنب أي تغطية، أو تطرق، للحرب، نتائجها وآثارها على قطاع غزة وعلى السكان فيه. مشاهد المأساة، الدمار الكليّ والإبادة الجماعية، كل هذه لا تصل إلى المواطن الإسرائيلي العادي (المتوسط) من خلال قنواته التلفزيونية الرسمية أو التجارية. ومن لا يعرف العقلية الإسرائيلية قد يظنّ، اشتباهًا، أنّ السبب وراء هذا الواقع هو الرقابة العسكرية أو أوامر عُليا، كما في الأنظمة الدكتاتورية، إلا أنّ العكس هو الصحيح. في الدولة التي تدّعي أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وتتباهي بإعلامها الحُرّ واللاذع وبحريّة التعبير الواسعة؛ من إعلامٍ ناقدٍ وكاشفٍ لفضائح السُلطة والفساد، يتحوّل الإعلام الإسرائيلي طَوْعًا إلى إعلام دعائيّ، مُجنَّد، مُراقِب وغير نقديّ، حتى بعد أربعة أشهرٍ لم تحقق خلالها إسرائيل أيًّا من أهداف حربها، تخلّت فيها عن مخطوفيها ووضعت نفسها في قفص الاتهام بتنفيذ جريمة الإبادة الجماعية، لا يزال الإعلام الإسرائيلي يتصرف مثل كلب حراسة الدولة وجيشها وإبادتها الجماعية ويختار، بمحض إرادته، دعم القيادتين السياسية والعسكرية وعدم الاستئناف على ممارساتهما وعدم طرح الأسئلة الصعبة والمستحقة، خاصة، في هذه المرحلة من الحرب. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ فقط، ففي العديد من الحالات، يتلقى المراسلون والمحللون العسكريون الإرشادات المباشرة، من خلف الكواليس، من مسؤولي الجهاز الأمني الذين كانوا يخدمون في العسكرية إلى جانبهم أو كانوا قادتهم العسكريين المباشرين، إذ من المعروف أن الغالبية الساحقة من العاملين في الإعلام الإسرائيلي كانوا قد بدأوا مسيرتهم المهنية في الصحافة والإعلام في إذاعة الجيش الإسرائيلي (غالي تساهل) أو في وحدة الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي وهم يشكلون، بأنفسهم، جزءًا لا يتجزأ من الجهاز الأمني، الأمر الذي يؤثر، بدون أدنى شك، على أدائهم الإعلامي وعلى كون الرسائل الإعلامية منسجمة تمامًا مع مواقف الأجهزة الأمنية. لذلك، يكون اعتماد كثيرين جدًا من عاملي ووسائل الإعلام الإسرائيلي على خريجي الأجهزة الأمنية كمحللين ومعلقين للشؤون الأمنية، مشاركين دائمين في البرامج الإخبارية.
أحد الأسباب التي تجعل الإعلام الإسرائيلي يتجند طوعيًا في خدمة الإيديولوجيا القومجية والدفاع الأعمى، تقريباً، عمّا تقترفه الدولة وأذرعها في الحروب، على عكس ما يميّز دورها النقديّ في القضايا الداخلية عموماً، يتمثل في فكرة مترسخة عميقًا لدى كثيرين جدًا من الإسرائيليين مؤدّاها أن "هُم الدولة والدولة هُم" وأن الدفاع عن الدولة وقيمها المؤسِّسَة هو دفاع عن أنفسهم وأن النقد الذي يُوجَّهُ إليها هو نقدٌ يوجَّه إليهم بشكل شخصي.
يُعتبر الإعلام في إسرائيل أحد الأدوات المركزية في عملية بناء وبلورة الموقف الجماعي، القومي الإسرائيلي. ويلعب هذا الإعلام، بمختلف أشكاله ووسائله، التلفزيونية والإذاعية والشبكات الاجتماعية، دورًا مركزيًا في الحياة اليومية ومن خلالها في بناء وبلورة الإجماع القومي والاجتماعي في الأيام العادية عمومًا، لكن في أوقات الحروب بصورة خاصة واستثنائية عبر تجنُّدِه كإحدى الأذرع الدعائية للجيش والأجهزة الأمنية الأخرى. فخلال الحروب، يمتثل الإعلام الإسرائيلي، بكامل قوته، عديده وعتاده، لخدمة المجهود الحربي. وفي هذا الإطار، من المعلوم أن أخبارًا عديدة تُحجب عن المواطنين وعن الجمهور العام في الدولة "لعدم تثبيط معنويات الشعب" أو "لمنع الكشف عن حركات وتحركات الجيش". وهذا، ناهيك طبعًا عن عدم بثّ أشرطة الفيديو التي تُصدرها الذراع الإعلامية في حركة حماس، بما في ذلك أشرطة الفيديو للمخطوفات والمخطوفين الإسرائيليين، والأخبار الأخرى عن القتلى بين الجنود وعن الحوادث التي تقع في إطار العمليات الحربية. فالصحفي الإسرائيلي يمارس عمله مُتنازعًا بين واجبه المهني والتزامه الأخلاقي له، من جهة، وبين التزامه الوطني ودوره المُفصَّل له، منذ الولادة تقريبًا، أن يكون جنديًا ليس في إطار الجيش وعلى جبهة القتال فحسب، وإنما في إطار عمله الإعلامي وعلى جبهة الجهد الإعلامي الدعائي.
ليس فقط أن الإعلام الإسرائيلي مُجنَّد للدفاع عن الدولة وخدمة حروبها بأيّ ثمن، وليس فقط أنه يردد بيانات الجيش وبلاغات الأجهزة الأمنية، التي غالبًا ما تحدد مسار الخطاب العام والرسائل الرسمية وترسم حدود هذا الخطاب، إلا أنه يأخذ على عاتقه أيضًا ما لا يتوقعه ولا يطلبه منه أحد، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومن هنا، تجد صحفيين لا يجدون أيّ عيب أو حرج، لا مهنيًا ولا أخلاقيًا، في إطلاق دعوات صريحة ومباشرة إلى تنفيذ جرائم حرب وإبادة جماعية، لا لشيء سوى لأن هذه الدعوات تحظى بشعبية واسعة، سواء بين الجمهور الإسرائيلي عمومًا أو بين أوساط واسعة جدًا من الجنود والقادة في الجيش. وبعد ذلك، لا تجد من يحاسب هؤلاء الصحفيين أو يعاقبهم، ليس من ناحية قانونية وإنما من ناحية مهنية، أخلاقية بالأساس.
ليس صدفة بالطبع أن إسرائيل وُضعت في قفص الاتهام في لاهاي، وقد كان جزء كبير من ذلك "بفضل" التصريحات التي أدلى بها سياسيون في وسائل الإعلام المختلفة ودعت إلى تنفيذ الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. أما الإعلام الإسرائيلي بوسائله المختلفة فقد تجاوز، منذ زمن بعيد، حدود التحريض وينبغي أن نذكر أن الصحفيين الإسرائيليين هم جزء لا يتجزأ من المشروع الاحتلالي والاستيطاني، سواء بصورة نشطة فاعلة أو بصورة سالبة. والاحتلال، بالنسبة للغالبية الساحقة منهم، غير موجود. ولأنه كذلك، فإن أيّ عمل مقاوِم للاحتلال هو "عنف وإرهاب، وحشي وبربري"، مما جعل هذا الإعلام، أيضاً ومنذ زمن طويل، أداة مركزية لنزع إنسانية الإنسان الفلسطيني وتكريس الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.... باعتبار أن هذا الإعلام جزء لا يتجزأ من منظومة احتلالية كاملة متكاملة.