أصوات فلسطين المتناثرة: مقدّمة عن الأرشيف الموسيقيّ والمسموع
تميّزت فلسطين في تاريخها الثري من التراث الموسيقي المسموع عن باقي بلاد الشام أو حتى في مصر بعدة أشكال، وتحديداً منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى بدء النكبة وما بعدها. يعود ذلك أولاً للتعددية العرقية والدينية والاجتماعية التي تواجدت تاريخياً على أرض فلسطين وما كان لها من تفاعل وعطاء متنوع ميزها عن غيرها من الموسيقى العربية، مثل المقطوعات الموسيقية التي نشأت في النصف الأول من القرن الماضي في الكنائس الفلسطينية على أسس وقواعد الموسيقى الغربية الكلاسيكية، ولكن بروحٍ فلسطينية (مثل مؤلفات سلفادور عرنيطة وأوغوستين لاما) والتي كانت نتيجة مباشرة للتفاعل والاندماج الديني والثقافي مع أوروبا.
وبالمقابل التداخل الأكبر مع العديد من الموسيقيين العرب الذين أتوا من شرقي الوطن العربي وبلاد الشام وقصدوا فلسطين كمعبر لهم إلى مصر وأدخلوا الكثير من المقامات والأنغام والألوان السمعية المتنوعة على الحياة الموسيقية الفلسطينية. وهكذا نشأ في فلسطين قبل النكبة جيل من الموسيقيات والموسيقيين امتاز في احترافه لمهنة الموسيقى وشجع شركات إنتاج الأسطوانات الموسيقية العربية والدولية آنذاك (أهمها شركة بيضافون) لاستقطاب أجمل الأصوات الفلسطينية لتسجيلها وانتاجها على أسطوانات الجراموفون وتسويقها. شكل وجود حراك موسيقي رفيع المستوى في فلسطين عاملاً مشجعاً لدى سلطات الانتداب البريطاني لتأسيس إذاعة "هنا القدس" عام 1936 لتكون ثاني إذاعة ناطقة باللغة العربية في الوطن العربي (بعد إذاعة القاهرة التي تأسست عام 1934) ثم إذاعة "الشرق الأدنى" في العام 1939/1940 لتكون ثاني إذاعة على أرض فلسطين. وكان العمل الإذاعي في ذلك الوقت يعتمد تقنياً بشكل أساسي على البث الحي والعزف على الهواء مباشرة مما يتطلب مهارة عالية في الأداء الموسيقي والتي كانت متوفرة في فلسطين.
انتهى هذا المسار فجأة في ظل أحداث الحرب التطهيريّة النكبة العام 1948. فأُغلِقَت الاذاعتان وأغلقت شركات انتاج الموسيقى مقرها في فلسطين واضطر العديد من الموسيقيين المحترفين أما للرحيل إلى مناطق اللجوء أو العمل في مجالات أخرى لتدبير لقمة العيش. ولكن كان هناك أيضاً من استطاع في الاستمرار في العمل في مجال الموسيقى خارج الوطن وكان له التأثير الكبير في الحياة الموسيقية في الدول العربية جديدة المنشأ والتي كانت بأمس الحاجة لعاملين محترفين في الإعلام الإذاعي والموسيقى، مثل روحي الخماش الذي أصبح من أهم القائمين على إذاعة بغداد، وصبري الشريف الذي بدأ عمله في إذاعة "الشرق الأدنى" في يافا والذي بدونه لما عرفنا "فلسطينيات فيروز" ولا عرفنا اليوم "الرحابنة" ومهرجانات بعلبك كما نعرفها.
تركت أحداث النكبة دمارًا وفراغا واسعًا وعميقًا في الحياة الموسيقية الفلسطينية، سواء في داخل الوطن المحتل أو في مناطق اللجوء والشتات. لأن فن الموسيقى بطبيعته فن جماعي يعتمد على الشراكة في الأداء وعلى توفير الوسائل التقنية المطلوبة وتمويلها، وهذا ما لم يتوفر بعد النكبة مباشرة، بقيت الحياة الموسيقية الفلسطينية شحيحة حتى منتصف ستينيات القرن الماضي. مع قدوم منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1965 واستدراكها لأهمية الموسيقى كعامل موحِّد ومستقطب داخلياً لأبناء الشعب الفلسطيني، ذلك بالإضافة إلى دور الموسيقى والأغنية المسيّسة في إيصال الرسالة الوطنية ثورية الهوية إلى الخارج بشكل حضاري، بدأ الدعم للأغنية الفلسطينية بشكلها الجديد والمسيّس يتبلور ويجسد الحراك الموسيقي الفلسطيني الجديد.
وعملت منظمة التحرير على دعم وتأسيس العديد من الفرق الموسيقية (أشهرها "العاشقين") ونشأت مئات الأغاني الثورية والتي امتازت بتركيبتها وأشكالها الموسيقية المتنوعة والتي كان لمصر وإذاعة "صوت العرب" تحديداً وكذلك لسوريا دور أساسي في آلية أداءها وإنتاجها. ذلك بالإضافة إلى العديد من الموسيقيين العرب المتضامنين مع القضية الفلسطينية والذين تركوا بصماتهم الواضحة على الإرث المسموع الفلسطيني، مثل مارسيل خليفة وسميح شقير وغيرهم. ولكن كان هذا الحراك الموسيقي في الشتات ينمو خارج الوطن المحتل وبمعزل عن الحياة الموسيقية داخل فلسطين، والتي استمرت وتطورت باعتماد ذاتي ومحدودة التفاعل الموسيقي والثقافي مع باقي أطراف الوطن العربي. ثم جاءت الانتفاضة لتخلق انتاج موسيقي آخر مميز وجديد، تمكن من التلاحم بأشكال مختلفة مع المحيط العربيّ.
مع التطور التقني الحديث لأليات الإنتاج الموسيقي وتوفرها في فلسطين في تسعينيات القرن الماضي وتأثير الواقع الذي انتجتهُ اتفاقيّات "أوسلو" مثل نشوء مؤسسات غير حكومية في الضفة وقطاع غزّة تعمل في مجال الثقافة والموسيقى أيضاً، بدأت الأجيال الجديدة من الموسيقيين تعمل على تطوير أنماطها الموسيقية الخاصة بها بشكل ذاتي وبدأت تندمج مع أشكال مختلفة من الألوان الموسيقية العربية والعالمية. فأُنتجت عبر الثلاثين عام الماضية لربما آلاف الانتاجات الموسيقية للجيل الجديد من الموسيقيين الفلسطينيين تمتد من أغاني "الراب" باللغة العربية مروراً بالأغاني الشعبية والشائعة وصولاً إلى مؤلفات موسيقية أوركسترالية. وهناك أيضا مئات الأغاني التي أنتجها موسيقيون عرب وأجانب وعبروا بذلك عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية، وكلها تمتلك مكانتها في "الأرشيف" الصوتي لفلسطين. لكن نسأل أين هذا "الأرشيف"؟
كل هذا العطاء الموسيقي فائق الامتياز والخاص بفلسطين وبشعبها الذي يوثّق كل الحالات الاجتماعية والتاريخية والسياسية والثقافية التي مرّت بها فلسطين عبر أكثر من قرن وهو موجود على تسجيلات ووثائق مسموعة لكنها متناثرة في مجموعات وأرشيفات عالمية عديدة وعربية وإسرائيلية أيضاً، لكنه بحاجة ماسة إلى الحفاظ عليه وفتحه بشكل ممنهج ومفهرس ليتيح المجال أمام الباحثين والموسيقيين وغيرهم من المهتمين للتعرف على هذا الارث الثريّ.
لا توجد حتى الآن أي مؤسسة رسمية وطنية تعمل على جمعِ هذا الإرث وفتحه أمام الجمهور. لكن بالمقابل هناك عدة مبادرات منها فردي ومنها تابع لمؤسسات غير حكومية تعمل على حفظ أجزاء من الموروث الفلسطيني المسموع. أذكر منها مشروع "مجاز" والذي يعمل على إعادة إصدار مجموعات الأغاني الفلسطينية التي انتجت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهناك مبادرة "مكتبة الموسيقى الفلسطينية" وهناك مؤسسة "نوى" التي تعمل على توثيق الإرث الموسيقي لفلسطين منذ عصر النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر حتى النكبة أوساط القرن العشرين. ثم هناك أيضاً المجموعات الأرشيفية الصوتية لـ"مؤسسة الدراسات الفلسطينية" والـ "المتحف الفلسطيني" وغيرها، علماً بأن هذه ليست مختصة في الأرشفة الموسيقية أو الصوتية.
ويضيقُ صدري كلّما أتذكّر أن أجزاء مهمّة وكبيرة من إرثنا الموسيقي الفلسطيني التاريخي ليست في أيدي فلسطينية. أذكر مثلاً التسجيلات الصوتية التي عملها في ثلاثينيات القرن الماضي المؤرخ الموسيقي روبرت لاخمان والموجودة اليوم في "الأرشيف الوطني الإسرائيلي". أو الأهم منها عشرات أسطوانات الجراموفون التي أنتجتها شركة "بيضافون" في عشرينيات القرن الماضي لمعنيين ومغنيات من فلسطين ولم أجد منها سوى أسطوانتين لـ"رجب أفندي الأكحل" في أرشيف المتحف الأثنولوجي في برلين ضمن مجموعة (Berlin Phonogramme Archive) والتي احتُفِظ بها في هذا الأرشيف من عشرينيات القرن الماضي ثم أُخِذت كـ "غنائم حرب" إلى الاتحاد السوفييتي في العام 1945 ثم أُعيدت الى ألمانيا الموحدة في العام 1991 حيث هي اليوم. ثم هناك جزء كبير ومهم جدا من التسجيلات الصوتية التي نهبتها إسرائيل في لبنان في العام 1982 وما زلات تحتفظ بها كغنيمة حرب في الأرشيف العسكري الإسرائيلي ومغلق عليها.
أغنية " The Urgent Call" من تصوير وإنتاج الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط (والد كاتب المقال) التي نهبت نسختها الأصلية من أرشيف قسم الثقافة الفنية التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية ضمن ما نهب أثناء غزو اسرائيل للبنان عام 1982
إذًا فلسطين اليوم هي في أمسّ الحاجة لخلق مبادرة وطنية مهنية تعمل على تأسيس أرشيف سمعي وبصري متخصص أو على الأقل ربط كافة المبادرات العاملة في هذا المجال بشكل أو بآخر مع بعضها البعض من أجل نجدة هذا الإرث من الضياع والحفاظ عليه لأولادنا والأجيال القادمة.
الصورة المرفقة لغلاف اسطوانة فرقة الفجر الفلسطينية، من موقع مشروع "مجاز".
د. بشار شموط
مهندس صوت فلسطيني وخبير في مجال الأرشفة الرقمية المرئية والمسموعة. تخصص في التاريخ السمعي والبصري لفلسطين وتراثها الثقافي ونشر عدة مقالات وكتاب في هذا الموضوع وساهم في إنشاء معهد الإعلام في جامعة بيرزيت، ويعمل بجانب وظيفته الأساسية في الأرشفة الرقمية في ألمانيا كأستاذ محاضر زائر في مجال الصوت وتكنولوجيا الإعلام في مؤسسات مختلفة في فلسطين والشرق الأوسط