قراءة أرشيفيّة لنهوض مدينة الخليل: حركة نسويّة، ومسرح ووعي قوميّ

سنحاول في هذا النصّ تتبّع النشاط المجتمعيّ من حركات نسويّة وحركاتٍ قوميّة في مدينة الخليل لمكافحةِ السياسة البريطانيّة، بدءًا من أحداث وتداعيات انتفاضة النبي موسى عام 1920، تخللت بدورها صدامات وقعت في موسم النبي موسى في القُدس، إثر تعدي اليهود المهاجرين المستوطنين على بيرق الخليل، بدأت ملامح التوتّر تظهر على العلاقة بين المسلمين واليهود العرب داخل المدن المختلطة مثل القدس والخليل وصفد ويافا وغيرها، على أثر ذلك قامت اللجنة العربية العليا بتشكيل لجان وطنية لتفادي الحرب الأهلية بين السكان الأصليين، بفعل سياسة بريطانيا الاستعمارية العنصرية التي فتحت أبواب الهجرة لليهود الصهاينة.

الحركة النسائيّة في الخليل: صوت لم تلجمه العادات 

عرفت فلسطين حركة مدنية اجتماعية وسياسية نشطة جدًا في عشرينيات القرن الماضي، إذ برزت عام 1922 حركة نسائية وطنية في مدينة الخليل، تركزت أعمالها في دعم العائلات المنكوبة على أثر انتفاضة عام 1920 والقمع البريطانيّ الذي تبعها، إلى جانب جمع التبرعات لدعم عائلات الشهداء والفقراء، وتأسست جمعية "سيدات الخليل" حسب ما أشارت إليه الأخبار في الصحف الفلسطينية الصادرة بين 1922- 1928 على يد فخرية طهبوب وملكة عرفة بالتعاون مع ميليا السكاكيني، في القدس، وشاركت جمعية "سيدات الخليل" مع الاتحاد النسائي العربي في القدس ويافا والقاهرة في العديد من الأنشطة الوطنية والخيرية طوال فترة النشاط الوطني الفلسطيني حتى نكبة فلسطين.

ملكة عرفة من مؤسسات جمعية سيدات الخليل - 1922

على إثر ذلك تم تشكيل اللجنة القومية عام 1923 في الخليل، كما بدأت المؤسسات المدنية تظهر على أثر صك الانتداب البريطاني عام 1922 وانتهت بالتالي فترة الأحكام العسكريّ التي بدأت مع احتلال فلسطين ما بعد الحرب العالميّة الأولى، وتحت جناح اللجنة القومية ظهرت جمعية الشبان المسلمين التي كانت تعمل ضمن أنشطة اجتماعية وطنية ثقافية في عام 1923، وتم إنشاء اللجنة النسائية كلجنة تابعة إلى الجمعية حيث تشكلت بمساعدة جمعية سيدات القدس ويافا، التي تألفت من زوجة مدير جريدة فلسطين عيسى العيسى وعصمت إفتيم، إلى جانب التشبيك بالعمل مع ميلينا السكاكيني من القدس التي كان لها الدور الأبرز في إبراز دور اللجنة في العمل الوطني والاجتماعي، وبدأت اللجنة النسائية في جمع التبرعات لمساعدة الفقراء ومنكوبي ذوي الثورات الوطنية في البلاد، وكانت الفاعلات النسويات من المدن الثلاث على تواصل مستمر في شتى المجالات المختلفة.

طالبات مدرسة الخليل الثانوية

في تاريخ 26 تشرين الأول، من عام 1929 تم عقد أول مؤتمر نسوي عام في فلسطين، انطلقت أعماله برعاية اللجنة التنفيذية العربية برئاسة زوجة موسى الحسيني بحضور 300 سيدة إلى القدس من مختلف مدن فلسطين. راسلت ميلينا السكاكيني عضوات لجنة "سيدات الخليل" بشأن عدم حضورهن المؤتمر، فأخبرنها بأن الدعوة لم تصلهن، لكن مليلينا السكاكيني أكدت توصيل الدعوة لمبنى بلدية الخليل، فقامت نساء الخليل بنشر احتجاج على صحيفة "مرآة الشرق" في تاريخ 6 من تشرين الثاني، خصوصًا حينما أدركت النساء أن رئيس بلدية الخليل مخلص الحموري، رفض تمرير الدعوة لهن، والسبب في ذلك هو علاقة المؤتمر في اللجنة العربيّة العليا الذي يرأسها المفتي أمين الحسيني. واعتبر الحموري على أنّ حضور المؤتمر يعبّر عن دعمٍ لسياسات عائلة الحسينيّ، وهو ما يرفضهُ الرئيس جملةً وتفصيلًا كونهُ مؤيدًا لحزبِ وعائلة النشاشيبيّ. 

بالمقابل، أكدت نساء الخليل من خلال الصحيفة على تأييد كافة قرارات المؤتمر الرافض لوعد بلفور والداعي لتشكيل حكومة وطنية، وطالبن بعدم دعوتهن من خلال بلدية الخليل في المناسبات القادمة. واستمر عمل لجنة سيدات الخليل حتى بداية الحرب العالمية الثانية، وكان دعم اللجنة للثورة الفلسطينية الكبرى من أبرز الأسباب التي دفعت بريطانيا لحلّ اللجنة وتوقيف عملها.

المسرح والهم الاجتماعي والوطني: بناء أول دار لرعاية الأطفال 1929

كما عرفت فلسطين نهضة مسرحية مبكرة جدًا في العالم العربي، وكانت المقاهي بدايات القرن العشرين هي الملتقى الثقافي الأول في الفضاء العام الفلسطيني، وتشير الوثائق إلى أن مقهى البلور في يافا عام 1907 احتضن أول عمل مسرحي قدمته فرقة حسن حسني، وعرفت مقاهي أخرى مثل مقهى المعارف في القدس، والنيو بار في يافا، وزهرة الشرق في حيفا وغيرها الكثير من مساهمات مسرحية وموسيقية متعددة أسهمت في رفعة المدينة الفلسطينية آنذاك.

عرض مسرحي

المسرح الفلسطيني في مدينة الخليل كان له دورٌ في تطور حركة المسرح الفلسطيني بدايات القرن العشرين، ويرجع توثيق تلك الحركة المسرحية إلى فترة مبكرة في الصحافة العربية في فلسطين، ومن ما ورد في تلك الصحف ما نقلته صحيفتيّ "فلسطين" والجامعة العربية" و "اللواء" بأعدادها الصادرة ما بين 1921-1932، وكانت الحركة المسرحيّة من أبرز آليات مجابهة الاستعمار ووعد بلفور، كما تم توظيف هذه الحركة من أجل دعم المجتمع المحلي في المدينة المتضرر من آثار الانتداب والثورات السياسية مثل ما ذكرنا أعلاه تداعيات انتفاضة النبي موسى وما تلاها ضدّ المشروع الصهيوني.

بناء دار رعاية الايتام من المسرح - 1932

تنامي الوعي الوطني والقومي

حاولت حكومة الانتداب البريطاني في ظلّ صعود الانتفاضات الفلسطينيّة، زرع الفتنة بين مختلف أطياف المجتمع، وحاولت في مدينة الخليل خلق صراع إسلامي مسيحي في واحد من أهم الأعياد المحلية في المدينة، وهو "عيد البلوطة" (بلوطة النبي إبراهيم) الذي كان يتم الاحتفال به في شهر حزيران من كل عام. 

الاحتفال بعيد البلوطة

في عام 1925 أثناء احتفال أبناء مدينة الخليل مع الطوائف المسيحية في هذا العيد داخل ساحة كنيسة المسكوبية قام مترجم بريطاني باستفزاز طفل دون العشر سنوات، وقام شرطيّ بريطاني بضربهِ، وعندما دافع ذوي الطفل عنه قامت الشرطة بمهاجمةِ الحضور وضربهم، وتم سجن أكثر من 50 شخص والتحقيق معهم في اليوم نفسهِ، وتم منعهم من المشاركة في العيد لسنواتٍ لاحقة، وهذا أدى بالشيخ، طالب مرقة، وهو رئيس الجمعية الإسلامية المسيحية في المدينة برفع تقرير وشكوى إلى الجنة التنفيذية العربية بما حدث (حسب الوثيقة المرفقة في تاريخ 2 حزيران 1925) مع العلم باستمرار بريطانيا في تطبيق تلك السياسة من أجل تفريق المجتمع الفلسطيني.

مسيحيو الخليل

ولكن من المهمّ التأكيد على أن بريطانيا فشلت في تطبيق وإنجاح مثل هذهِ السياسات، ونذكر مثالًا في هذا السياق في تاريخ 10 تشرين الأول من عام 1929، حيث تبرّع أحد رجال المسيحيين في مدينة الخليل بمبلغِ خمسة جنيهات فلسطينية، لأسر الثورة المنكوبة في المدينة، وقامت زوجة رئيس الشرطة إبراهيم جرجورة بعملية جمع المال من مسيحيين مدينة الخليل لجميع المنكوبين وغالبيّتهم من المسلمين، ولم تقف الأمور عند هذا الحد حيث كان للجمعية "سيدات الخليل" والمسيحيين عموماً دوراً كبيراً ومهمّ في اللحمةِ الوطنية في ثلاثينيات قبل أن تخرجهم بريطانيا من المدينة نهائياً عام 1936، ويصلُ عددهم حتى 195 ينتمون إلى الديانة المسيحيّة.