إِرثُ "اليهود العَرَب" في الخَليل، جَرح النكبَة النّازف في وَجه المَدينَة

لا تَزال الرواية الصهيونية تَلعب دورًا كبيرًا، في توظيف التاريخ اليهودي ما قَبل الصهيوني، في تنفيذ أَجِنداتها السياسية والاستعمارية في أرض فلسطين، حيث وجدت في هذا الجانب مسوغًا تاريخيًّا لتحقيق أهدافها التوسعيّة، خاصة أنه يوافق الهوية القومية (اليهودية) للدولة التي ولدت عام 1948، والتي شَمِلت في أوّل المَطاف مدنًا احتوت على طوائف يهودية شرقية منذ القرون الوسطى -مثل يافا وطبريا- ساهمت بعض جالياتها في التّفاعل مع الوكالة اليهودية منذ تأسيسها لتنفيذ بعض المخطّطات الصهيونية قبل حرب النكبة.

 وَجَد المشروع الصهيوني بعد العام 1967م في بَعض مناطق الضفة الغربية مِثل مدينة الخليل إرثًا يهوديًّا مهمًّا يُمكن استخدامه لمتابَعة مشروع الإبادة التاريخية والحضارية والوجودية للشعب الفلسطيني، خاصة بعد تعالي أصوات الصهيونية الدينية المُنادية بأرض الميعاد، والتي بدأت تشكّل ملامح دولة إسرائيل علمانية المنشأ بعد النكسة.

سكنت 20 عائلة يهودية لاجئة من إسبانيا في الخليل عام 1539م حسب ما وَرَد في دفاتر الطابو العثمانية، ولم يتجاوز عدد اليهود في الخليل 250 نسمة في نهايات القرن الثامن عشر حَسب ما وثّقه الكاتب اليهودي ناتان سور، جُلُّهم من السفارديم الشرقيين، أما في القرن التاسع عَشَر فبدأَ اليهود الأشكناز بتوجيه أنظارهم للسكن في الخليل قادمين من بيلاروسيا ومناطق أخرى من أوروبا، وفي هذا السياق شكّلت إقامة عائلة سلونيم في المدينة لحظة فارِقة، فهي عائلة انتمت لحزب المزراحي المتديّن بعد المؤتمر الصهيوني الأول، وعَملت في ما بَعد بِدَعم من الوكالة اليهودية على شراء أراضي العرب لدعم بناء مستوطنات يهودية عليها.

كما كان افتتاح القنصلية البريطانية في القدس عام 1838م حدثًا مهمًّا في دعم اليهود في الخليل خاصّة الأشكناز منهم، مُمَثلًا بشخص اللورد البريطاني اليهودي (موشيه مونتفيوري)، حيث كان لهذا الدعم المتمثّل بوضع اليهود القادمين من بيلاروسيا في صفد والخليل وطبريا تحت الوصاية البريطانية، دَور في تطوّر مشاريعهم الاستعمارية المبكرة لاحقًا.

الصورة 1: رسالة مُرسَلة من القنصل البريطاني في القدس (جيمس فين) إلى وزير الخارجية البريطاني (اللورد بالمرستون) عام 1849م، بشأن تَعيين ممثلين عن يهود الخليل وطبريا وصفد أمام القنصلية البريطانية.

تطوّرت الجالية اليهودية في الخليل بِفِعل الوصاية البريطانية ودعم اللورد موشيه مونتفيوري الذي زار المدينة عام 1853م، حتى وَصَلت ذروتها عام 1895م، إذ بَلَغ عدد اليهود فيها 1320 نسمة غالبيتهم من السفارديم الغربيين، وبدأوا بالسكن خارج حدود الحيّ اليهودي، مِن خلال بناء المباني الفاخِرة والضّخمة على حدود الخليل القديمة وعلى امتداد شوارعها الرئيسة، لكن العدد انخفض لـ 700 نسمة أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي بداية الانتداب البريطاني دَعَمت بريطانيا المجتمع اليهودي في المدينة، وساهمت في إعادة افتتاح بنك أنجلو فلسطين عام 1919م، وتسهيل إقامة اليهود الغربيين في المدينة، وكانت جغرافيا الوجود اليهودي تزدهر خارج حدود الحيّ اليهودي الشرقي القديم باتجاه الغرب والشمال على طريقي بئر السبع والقدس.

الصورة 2: مُخطّط حارة اليَهود في مدينة الخليل عام 1932م، هُدِمت أجزاء من الحارة بفعل زلزال 1954 وبُني على أنقاضها سوق الخضار في ما بعد.

عرفت الجالية اليهودية الغربية تطورًا وازدهارًا كبيرين في المدينة بعد العام 1920م في ظلّ الحكم المدني البريطاني، فبَنَت الفنادق والمدارس الدينية والبيوت الفخمة، خارج حارة اليهود، وبدأ المجتمع اليهودي الغربي المهاجر من أميركا وأوروبا الغربية وروسيا بتحييد اليهود الشرقيين والإمساك بزمام الإدارة، بدعم من الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية، وكانت مقرّاتهم كلّها تقع خارج حدود البلدة القديمة، التي شكّلت بؤر الاستيطان الحديثة في المدينة بعد حرب النكسة 1967م، أشهَرُها مستوطنة "بيت هداسا" وأقيمت مكان مبنى فضل إبراهيم (احتوى مشفى وصيدلية ومركز حاخامية) بني عام 1893م على يد رئيس طائفة اليهود الأشكناز "حاييم فرانكو". أما مستوطنة "بيت رومانو" فأقيمت مكان دار استنبولي التي بُنيت عام 1875م  على يد اليهودي التركي حاييم ميركادو، وكانت حينها مبنى ضخمًا شكّل نقطة بداية التطوّر الحضري للمدينة باتجاه الغرب، اشتراه في العام 1912م اليهودي الأشكنازي حاييم شنيرسون وحوّله لمدرسة دينية حسيدية للطلاب اليهود الروس المهاجرين للمدينة، وعام 1914 صادَرَت الحكومة العثمانية المبنى بسبب حربها مع الروس وحوّلته لمركز شرطة استمر حتى نهاية الحكم البريطاني.

امتلك اليهود العرب قبل ثورة البراق 1929م عشرات البيوت والمحلات في قصبة المدينة القديمة في الخليل، منها ما كان مركزًا للدّراسة أو فنادق وبعضها كان مقرّات سِرية للحركة الصهيونية، وبعد إجلاء اليهود من المدينة على يد الجيش البريطاني إثر اندلاع ثورة 1936م، باع الكثير مِن العائلات اليهودية وخاصة الشرقيين أملاكهم أو أجّروها للعرب، بوساطة اليهودي يعقوب عزرا كونه آخر يهودي غادَرَ المدينة عام 1947م، وبعد انتهاء حرب النكبة، أمّمت الحكومة الأردنية أملاك اليهود على أنّها أملاك غائبينن ووضَعت إدارتها تحت هيئة خاصة أسمَتها (حارس أملاك العدو)، وبسبب الفَوضى التي ترافَقَت مع تقسيم البلاد إثر النكبة 1948، وعدم قدرة اليهود على التصرّف بممتلكاتهم وضياع العديد من عقود البيع أو التأجير، وموت الجيل الأول من اليهود الذي يعرف تفاصيل الملكية في المدينة، نشأ جيل آخر من أبنائهم وأحفادهم توارث فكرة "العودة للخليل" لممتلكات أغلبها كانت مستأجَرة من العرب المسلمين، وبدأت تيّارات متشددة تطالب بـ "العودة" للمدينة بعد عام 1969م، والاستيطان فيها، وخارج حدود حارة اليهود التاريخية. تم الادعاء بملكيّة أكثر من 50 عقارًا خارج حدود البلدة القديمة، وتم تنظيم جولات لزيارة تلك المباني وتوثيقها من أجل السيطرة عليها.

الصورة 3: خريطة نشرت عام 1970م لتوثيق بعض المباني التي تتدعي الحكومة الصهيونية ملكية اليهود لها خارج البلدة القديمة في الخليل.

تعود الغالبيّة العظمى من المباني المَوجودة على الخارطة المنشورة أعلاه في الأصل لملكيّة فلسطينية بعقود ملكية مثبتة حتى اليوم، استأجرتها الحركة الصهيونية مطلع عشرينيات القرن الماضي من خلال اليهود الغربيين وحوّلتها لفنادق أو مدارس، مثل مبنى مدرسة (يشيفيا إسرائيل) الذي افتتح عام 1924 وهو مُلك مثبت لعائلة الخطيب، وفندق "شنيرسون" الذي تعود ملكية مبناه لعائلة كردية، أو مبنى مدرسة أبو ديّة القديمة الذي كان ملكًا لعائلة بدر.

الصورة 4: مبنى عائلة الخطيب/ مدرسة (يشيفيا إسرائيل) سابقًا.

نجحت الحكومة الإسرائيلية في السيطرة على بعض المباني اليهوديّة القديمة بفعل وقوعها تحت سَيطرة حارس أملاك العدو، حيث انتقلت هذه الإدارة للحكومة الإسرائيلية عام 1967م، وهذا ساهم بشكل كبير في تسهيل توطين اليهود وخاصة المتدينين الأميركيّين فيها، وبتوسيع تلك الأبنية بإقامة طوابق أخرى كما حدث في "بيت رومانو" و"مشفى فضل إبراهيم" لاستيعاب عشرات المستوطنين، والسيطرة على المباني المحيطة بتلك الأبنية بحجّة الدواعي الأمنية، ومع ذلك عادت بعض العائلات اليهودية العربية التي تَرَكت فلسطين قبل النكبة وطالبت بأملاكها مثل اليهودي (حاييم بجايو)، لكنّ الحكومة الإسرائيلية رَفَضت ذلك بحجّة أنها أَملاكُ غائبين، وتم على إثر ذلك تَفويض بلدية الخليل بإدراة ممتلكاتهم لحين عودتهم مستقبلًا بعد تحسّن الأحوال، ويأتي رفض الحكومة الإسرائيلية لذلك من أجل استكمال مشاريعها الاستيطانية التوسعيّة في المدينة.

الصورة 4: مبنى "مشفى فضل إبراهيم"/ مستوطنة "الدبويا" بعد الإضافات الصهيونية.

في نهاية التسعينيات، وقّعت 19 عائلة يهودية عربية من الخليل مقيمة في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، إعلانًا يَنُصّ على رَفض إعطاء الحكومة الإسرائيلية ممتلكاتهم في الخليل للصهاينة المتشدّدين، خاصة بعد أحداث مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994م، لكن الحكومة رَفَضت النظر في هذه المطالب بسبب ملكيّتها لأملاك الغائبين اليهود في الخليل، كما رَفَضت عَودتهم من الخارج للسكن فيها بالرغم من كونهم يهودًا أيضًا، وهنا يكمن السؤال الحقيقي عن مدى مصداقية حكومة الاحتلال في كون الاستيطان في قلب المدينة يأتي حسب مزاعمهم نتيجة حقّ يهودي في تلك الممتلكات، فإذا كان أصحاب العقارات الحقيقيون غير قادرين على المطالبة بها أو العودة إليها؟ فهذا الحقّ لمن يعود؟! وكيف أصبحت الرؤية الاستيطانية الصهيونية هي البوصلة للحقّ التاريخي، والتي لم تعتدِ على حقّ الفلسطينيين المسلمين فقط بل على حقّ اليهود العرب أيضًا.

أحمد الحرباوي

روائي وباحث في مجال الانثربولوجيا الثقافية

هيفاء زيتون
شكرا لك على هذه المعلومات ولا اخفي عليك انني سمعت بها من والدتي رحمها الله والدتي من مواليد ١٩٢٠ وكانت تخيط لجيرانها اليهود وكانوا ساكنين بمدينة الخليل ويعاملونهم جيران ومعاملة طيبة كما وجودهم بباقي الدول العربية انقلبت الاحوال بعد التطلعات الصهيونية ولو انهم بقوا كعرب يدينون باليهودية لما كانت هناك مشاكل مشاكلهم خلقتها صهيونيتهم رحمك الله والدتي الحبيبة كانت تاريخ فعلا مرة اخرى شكرا لكم
الخميس 1 أيار 2025
زليخة المحتسب
حاييم بجايو كان من اليهود الخلايلة والذي رفض ان يترك الخليل حتى عام 1947 وانتقل الى جيلو قريبا من القدس. وكان يتمنى لو انه يرجع الى الخليل ويسكن فيها وحين يموت يدفن في ترابها. كثير من اليهود الخلايلة طالبوا موشيه دايان بالعودة الى املاكهم في الخليل بعد 1967 ولكن طلبهم قوبل بالرفض حتى لا يكون ذريعة قانونية يستخدمها فلسطينيو ال1948 في مطالبتهم للعودة الى بيوتهم التي هجروا منها.
الجمعة 2 أيار 2025
رأيك يهمنا