نَكبة واحِدَة مُستَمرّة.. لا اثنَتان

مُنذ الحَرب الأكبر دمارًا والأطول مُدّةً على قطاع غزة، تتداول وسائل الإعلام وشَبَكات التواصل الاجتماعي والناس، مُصطلح، "نَكبة جَديدة"، وهو مُصطلح مِنَ المَفروض أن يُقابله مصطلح "نَكبة قديمة". في سِياقات الكتابة التاريخية عن نكبة عام 1948 لم يُستَخدَم أيّ مصطلح غير "نكبة"، لأنّ النكبة والطَرد والتّهجير القسريّ من فلسطين التاريخيّة لم يصبح تاريخًا قديمًا أو حَدثًا قد مضى وانتهى. فالتّهجير وهَدم البيوت ومصادرة الأراضي ممارسات استمرت من العام 1948 إلى يومنا الحاضر بِطُرق متعدّدة، أحيانًا خفيّة وأخرى جليّة.
على سَبيل المثال، يَعيش النقب حالةَ التّهجير القسريّ وهَدم المَنازل المستمرَّين؛ عائلات مِن حيّ الشيخ جراح تُعاني من الطّرد، وهناك إقامة المستوطنات ومصادرة الأراضي، وحَرق البيوت، مثلًا، في قرية جيت وكثير من القُرى الأخرى، إذ يُصارَع الفلسطينيون الحياة يوميًّا بسبب المستوطنين، في الوصول إلى أراضيهم الزراعية أو تحقيق الأمان الشخصي وحماية الممتلكات والأمثلة كثيرة. هذا كفيل بأن يعبّر عن أنّ نكبة الفلسطينيين هي واحدة مستمرّة منذ بدايتها، أَحيانًا قاسِيَة، وأحيانًا ناعمة وتدريجيّة!
الهُجوم الشّرس غير المقيَّد بأيّ معايير أخلاقية أو إنسانية ولا رادع له على قطاع غزة يُشبه نكبة عام 1948، وأَظُن أنّ استخدام مصطلح "نكبة ثانية" غير موفّق، لأن بَراعم التخطيط للنكبة، بدأت تَظهر بشكلّ تدريجي قبل عُقود من حدوثها، وتواصَلَت حتّى زَمَننا الحاضر.
شَهِدَت فِلسطين الكبيرة أحداثًا وحروبًا كثيرة، هَدَفُها الاستلاء والسّيطرة على الأرض بشكل كامل مِن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي تَرفض دومًا التسويّات العادلة.
أَوَدّ أن أعبّر أَكثَر بأمثلة بسيطة عن سَبَب كون تَسمية "نكبة ثانية" غَير موفّق، على سبيل المِثال لا الحصر، عندما يمرّ ابن قرية كابول في الجليل صباحًا ومساء مِن جانِب قريته المهجّرة ميعار، فهذه نكبة بَصريّة يوميّة يتعرّض لها هذا الشخص دون أن يعبّر كلاميًّا عمّا يراه يوميًّا، ربّما أَصبح المَشهد اعتياديًّا، لكنّ حُضوره قويّ، راسخ في الذّاكرة والجَسَد. كذلك عندما يَذهب ابن قرية هربيا المهجرّة والمدمّرة يقطف العنب من دالِيَتها التي زَرَعها جدّه فهذه نكبة مكانيّة وجدانية دائمة، وكذا البيت الواقف مُهَجرًا ينتظر عودة أهله، والمُهجَّرة التي تَنتظر عودتها لديارها.. لذلك تقول لنا أَبسط الأمثلة إن الشّعب الفلسطيني يَعيش النكبة الواحدة الجارية والمستمرة بجميع أشكالها.
صَدمة أهل القطاع مِن زوال أحياء بأكملها التي لم يعيشونها في الحروب الخمسة التي شُنّت على القطاع على مدار سنوات، بُكلّ تأكيد مفهومَة ونَتعاطَف معها لأنّنا نَحن أيضًا ذُهِلنا مِنها، لكن هذه الأفعال غير جديدة على حكومات إسرائيل وتتمثّل باغتيال الأماكن، مِن أحياء وقرى ومدن فلسطينية على مدار عقود من الزَمَن. ما يَجري استمرارية لزَوال القرى الفلسطينية التي تجاوز عددها المئات، أزيلت تمامًا عن وجه الأرض، وما زال أهاليها يعيشون الصّدمة في الاغتراب القسريّ عنها. إذًا، ليست هذه الوحشية بجديدة بل هي حاضرة وتشتدّ حين يُفسح لها المجال، مثل السابع من أكتوبر، إذ اكتَسَب ما تَفعله الحكومة الإسرائيلية وجيشها بالقطاع "شرعية" دوليّة، على الرغم من وجود معارَضة دولية واستهجانًا كلاميًّا وليس فعليًّا من أيّ طرف لوقف الجريمة الكبيرة التي تعدّت جميع الحُدود الأَخلاقية.
لكن في حال عُدنا إلى نكبة وحرب عام 1947-1948 وقارنّاها سياسيًّا مع الحرب الشرسة على قطاع غزة منذ العام 2023 إلى عامنا الحالي 2025، نَجِد أن حرب 1947-1948 التي شُنّت على فلسطين التاريخيّة كانت حَربًا قوميّة؛ الصّراع قومي على الأرض، حيث تمّ تهجير قِسم كبير من العرب الفلسطينيين من فلسطين، ولم تَنجَح الحَرَكة الصهيونيّة في تفريغ فلسطين تمامًأ من سُكّانها الأصليين. مع مرّ السنوات أصبح الحَديث يدور على حلّ سياسيّ وهو قيام الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، ومع الوقت أصبحت أصوات تُنادي بإقامة دولة واحدة كبيرة تكون لجميع المواطنات والمواطنين في البلاد.
كان المُكوّن الديني في الصراع في العام 1948 حاضرًا في خَلفيّة الحرب، لكنّه ضَعيف جدًّا، ثم أصبح مع مرور السنوات حاضرًا بقوة، وتَعود جذوره إلى سنوات السبعينيات من القَرن الماضي، عِند صعود اليمين الديني الصهيوني المَدعوم من اليمين المسيحي الإنجيلي الصهيوني في أمريكا، الذي يُؤمن بـ "الخَلاص" ويعمل من أجل تَحقيقه.
ما هي العَلاقة بين اليمين المسيحي الإنجيلي واليمين المسيحي اليهودي؟ العلاقة أن هاتين الحركتين تناديان وتؤمنان بفِكرة الخَلاص المسيحية، في إطار دُول يمينيّة مُحافِظة، سواء كان في أميركا أو إسرائيل.
كَيف تُؤثر على حياتنا وعلى الحرب القائمة؟ هذا الطَّرح مناسب وذو صِلة بما يحدث اليوم، ويجب أن يُقلِق مَضاجع المواطنات والمواطنين في هذه البلاد جميعًا؛ عربًا ويهودًا، هذا بعد استلام الإدارة الجديدة والمدعومة من اليمين المسيحي الإنجيلي مقاليد الحُكم في الولايات المتحدة. يُؤمن هؤلاء الناس أنّنا نعيش في فترة الخَلاص، التي سَتَأتي بواسطة الشّعب اليهودي في "أرض إسرائيل"، من خلال الحُروب وسَفك الدماء. يُؤمن هذا اليَمين أنّنا نعيش في فترة المُعجزة والخَلاص، وأنّ الحرب على مساحة أو بقعة "أرض إسرائيل" التوراتية هي هَدف إلهي، معتنقو اليمين المسيحي الإنجيلي واليمين اليهودي "لا يعيشون" حياة الحاضر والمستقبل التي تَمنح الإنسانَ الأَمل من أجل استمرارية وُجودنا. تطمح هاتان المَجموعتان إلى خَراب الحياة الآنية من أجل الفوز بالحياة الآخرة الأبديّة. حسب الإنجيليين، يتحقّق هذا الطُموح بواسطة حَرب "يأجوج ومأجوج" في جبل مجدو، حسب ما جاء في "العهد الجديد". سيتم في هذه الحرب تدمير العالم المَعروف لنا اليوم، ويَبقى فقط الذين يؤمنون بقيام المسيح. في قيادة الحركة الإنجيلية، واليمين المسيحي اليهودي، يؤمنون أنّه يَجب عليهم التصرّف بشكل استباقي من أجل تَقريب الخَلاص، مما يَعني، من بين أمور أخرى السيادة اليهوديّة على العالم، هذا يَحدث بالنّصر والفوز. فَما يدور في القطاع مِن فظائع شَرسة ومَحو مكانٍ وبشر، يعود لهذه الفكرة التوراتية الجنونيّة. تنادي الحَرَكتان بأفكار مُحافِظة تتلخّص بانقلاب إسرائيل إلى دولة دينية. يُستخدم الدين هُنا واسطة لِتَعزيز التوسّع الإقليمي، نجدّ التعبير عن هذا في الحرب القائمة على قطاع غزة، فعدم توقّفها الآن أصبح يعبّر عن التقرّب من النهاية/ الخلاص.
حربٌ استمرت أكثر من ستة عشر شهرًا دون دافِع لإيقافها. تسعى الرؤية الدينية المسيحية لتحويل قطاع غزة إلى أرض قاحلة بعد أن كانت تعجّ بالحياة. وهذا استمرار لحرب 1947-1948 لكَي لا نُخطئ ونَعتبرها حربًا جديدة، فَهي لَيست بالجديدة ولا بالقديمة، بل هي حرب قائمة طول الوقت، ومُستمرة بِنِسب مُتفاوتة لِتَصل مُبتغاها المتمثّل بالسيطرة والسيادة على "أرض إسرائيل"، وقطاع غزة هو جزء من هذه المساحة.
ربما الناحية الدينية غير ظاهرة تمامًا، لكنّها مُخيفة بحضورها. من ناحية أخرى، تعتَبر حركة "حماس" أن أرض فلسطين التاريخيّة وقف إسلاميّ وتحارب من أجل تحرير الوقف بدافع دينيّ.

روضة غنايم
من سكّان مدينة حيفا، وهي باحثة في التاريخ الاجتماعي والتاريخ الشفوي، وكاتبة مقالات في عدة منصات. صدر لها كتاب «حيفا في الذاكرة الشفويّة، أحياء وبيوت وناس»، عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» في عام 2022