كل فلسطيني مُدان سواء نطق أم صمت..
لم يشهد تاريخ البشرية أن حاكمًا او متحكمًا أو مستبدًا، مهما بلغت سطوته وامتد نفوذه نجح يومًا بجعل كائنًا من كان، أن يشعر وفق أهواء ذلك المتحكم، أو يفكر وفق ما تتطلب مآربه او ما يفرزه دماغه أو ترسمه أولوياته. نعم قد تفرض سطوة المتحكّم إخراس الأصوات المناهضة لروايته او سياساته لكنه حتمًا لا يملك القدرة ان يقتلع مشاعر او يستبدل أحاسيس وتفاعلات الآخر وفق سجيته.
وهنا يأتي السؤال، ما الجدوى من تكميم الأفواه وسلب الفلسطيني حقه في التعبير عن رأيه أو تعاطفه مع أبناء شعبه الرازحين تحت آلة البطش والتهلكة؟ ما الجدوى من الملاحقات الغرائبية التي تطالنا أبناء شعبنا، طلاب وعمال، شيبًا وشبابا، نساء ورجالًا، ناطقين وصامتين على حد سواء؟
طغى على واقعنا منذ أن اندلعت أحداث السابع من تشرين 2023 وحتى اللحظة مشهد غرائبي غير مسبوق. مشهد ألقى بظلاله على البشر والحجر، على القوانين التي باتت مطاطة فضفاضة، على جهاز القضاء الذي استبدل بوصلته مسترشدًا بالأصوات الصاخبة التي تعج بها الشوارع والمنابر والمنصات الكارهة لكل ناطق وناطقة بالضاد.
بين ليلة وضحاها بات تكميم الأفواه الفلسطينية المدعّمً بقوانين ومشاريع قوانين جديدة أكثر ديكتاتورية هو الأمر الطبيعي في "الدولة الديمقراطية"، وأمسى واقعًا يقابل بدعم ومناصرة جارفة من أقصى يمين الشارع الإسرائيلي حتى أقصى يساره، بما في ذلك شخصيات عامة مؤثرة ومؤسسات، كانت حتى قبل ساعات من السابع من تشرين الأول، تتغنى بشعارات المساواة والعدالة السياسية والاجتماعية والدفاع عن الحريات. ولا استثني من هذا الجرف مؤسسات نسويّة وحقوقية نادت، قبل أحداث تشرين الأول، بطروحات وتصريحات برّاقة عن الإنسانية والدفاع عن حقوق "المضطهدين في الأرض"، لتنضم اليوم جهارًا للجوقة الفاشيّة المحرضة على كل من يجرؤ أن يتضامن مع ألم آخر غير الألم الإسرائيلي.. بل تصمت وتتغاضى وتتجاهل تحريض أحد المؤثرين المتطرفين، على سبيل المثال لا الحصر، بالتحريض على فنانة فلسطينية دعى علنًا لاغتصابها. هذا الكيل بمكيالين له ما له من دلالات على الذهنيّة الحقيقيّة لهذه المؤسسات ونظرتها الاستعلائيّة المتأصلة للاخر (الفلسطيني) إن لم أقل وجهها الحقيقي.
داهمتنا هذه الجائحة في واقع من التفكك الاجتماعي والوهن التنظيمي، القديم الجديد، ما جعل بناتنا وابناءنا يدفعون أثمانا باهظة ولا زالوا يدفعون، كما أتاح التفكك.. هذا التفكك والوهن أن نتحوّل الى "حاويات" يفرغ فيها الشارع الإسرائيلي المتألم، بأفراده وجماعاته ومؤسساته، الحكومية والمدنية، جام غضبه.. ومع تفاقم الملاحقات والمضايقات والاعتقالات والتحريض علينا في كافة المنصات. وضبابيّة المعايير، التي كانت قبل الأحداث تحتكم لقوانين واضحة، نوعًا ما، تكفل حرية التعبير عن الرأي، لنراها تكبّل مجتمعنا في حالة من الهلع والذعر والعجز والذهول وعدم الجدوى.
وأسوة بما حصل في الأزمات السابقة التي تتالت على ومجتمعنا واصابته في الصميم، تجندت جمعية كيان – تنظيم نسويّ وجمعيات مجتمع مدني فلسطيني أخرى لأخذ دورها في مساندة بنات وأبناء مجتمعنا الذي إنتابه الذعر والهلع من الوضع الجديد وبغياب البوصلة.
منذ السابع من تشرين الأول وصلت لجمعية كيان مئات التوجهات من شابات وشبان تعرضوا للملاحقات والتضييقات في كافة المساحات التي يتواجدون بها، سواء في أماكن العمل او الجامعات والمعاهد العليا، أو في المساحات الافتراضية، التي كانت، قبل السابع من تشرين الأول، مساحات تتيح لهم فرصة للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم بإطار القانون، لتصبح اليوم أداة تستخدم ضدهم وتفسّر كمعاداة للدولة وأمنها، حتى لو لم تتضمن موقفًا داعمًا لطرف دون الاخر او لمجرد الأمنيات بوقف الحرب و\او الدعاء بالرحمة للضحايا أو باستبدال الحال الراهن بحال أفضل منه.
وبالطبع جمعية كيان والمؤسّسات الحقوقيّة والنسويّة الأخرى، ليست بمنأى عن هذه التضييقات، التي سلبتها حقّها الشرعي بالاحتجاج على الأوضاع المأساويّة التي عانت وتعاني منها نساء غزّة، من نزوح وقتل وإصابات وأوبئة وثكل ورعب وفقدان، وعلى ما تشهده النساء الحوامل من قهر ومشقّات، وتفاقم حالات الإجهاض والإنجاب بظروف غير إنسانية خطيرة في ظل نقص المستلزمات الطبية الأساسيّة. وبالتالي، ارتأينا في كيان أن نركز جهودنا خلال هذه الفترة العصيبة على إسناد بنات وأبناء مجتمعنا في مواجهة الملاحقات السياسيّة والتضييقات المذكورة، من خلال تقديم الدعم النفسي والعاطفي، الاستشارات القانونيّة المتعلقة بالتهديدات والإجراءات العقابيّة والاعتداءات العنيفة، وقضايا التهديد والابتزاز للنساء بشكل خاص والمجتمع بشكل عام. إضافة الى عقد ندوات إلكترونيّة وإصدار منشورات توعويّة بغية درء المخاطر التي قد تطرأ جراء عدم معرفة القوانين، وكذلك للإجابة على التساؤلات والمخاوف التي تثيرها الأوضاع والتغييرات المتلاحقة منذ بدء الحرب.
إن المشهد الحالي يضعنا جميعا أمام أسئلة مفصلية لا يجدي الهروب منه نفعًا..
ماذا بعد أن تنتهي هذه المرحلة؟ هل سيتمكن الجميع، من كلا الطرفين، العودة الى ما سبق هذه الأزمة؟ هل تبنى المجتمعات والشراكات على نفاق اجتماعي نراه يُنسف أمام كل أزمة جديدة؟
هل سنترك أنفسنا لهذا التفكك والوهن التنظيمي والمجتمعي عُراة من دون أي حصانة مجتمعية؟ ألم يحن أوان إعادة بناء هويتنا الجمعية ولحمتنا المجتمعية بعد؟
ماذا سيكون مصيرنا في الحرب القادمة \ الازمة القادمة ان بقينا بحالة التفكك والتخلي عن ذواتنا وكياننا؟