"اليوم التالي" للحرب: غزة.. وما بعدها!

 دأبت إسرائيل وأميركا على ترديد مصطلح "اليوم التالي للحرب" مئات المرات، خلال نحو 36 أسبوعا، أي منذ بداية الحرب الأعنف على غزة.

لكن، ما يُمكن استنتاجه أن جمهورا واسعا، غالبا ما يتعاطى مع هذا التعبير، على الأقل حتى اللحظة، بشكل مجرّد وانفعالي، وربما عابر، أو يُناقش بمنطق "الثنائية" الجدلية في بلادنا أحيانا.

بالطبع، وجدانيا وحَدثيا، يُمكن تفهّم ذلك؛ لأن الأخبار اليومية للحرب القاسية، وأهوالها، تمتلك تفكيرنا، وأعصابنا، بينما يُؤجل أي شيء آخر إلى حين.. فالأولوية هنا هي وقف الحرب، والكارثة، ولا جدال في ذلك.

رغم هذا، فإنّه بعد مرور أشهر الحرب الطويلة، وما رافقها من وقائع غير مسبوقة، فلسطينيا وإقليميا، بات لزاما أن نتوقف عميقا عند مفهوم أمريكا وإسرائيل لـ"اليوم التالي"، وسياقاته، وحدوده، ومستجداته.. ذلك أنّ محاولة فهم المُراد، والسياق، قد يسعفنا بعض الشيء في استقراء حجم القتامة التي تعتري الحاضر، والمستقبل، وخاصة ما يتعلق بمصير القضية الفلسطينية، والمنطقة برمتها، وصولًا إلى استنتاج مفاده بأنّ ما يجري يندرج في سياق مخاض صعب، لا يُمكن الجزم بمآلاته.

لا جدل في أن مصطلح "اليوم التالي" يختزل هدفا استراتيجيا بخلق واقع جديد في قطاع غزة، أمنيا وجيوسياسيا، لكن مآلاته المقصودة أبعد من جغرافيا القطاع، باعتباره "مفتاح اليوم التالي" للضفة الغربية أيضا، توطئة لشرق أوسط جديد، بمنظور أميركا، وإسرائيل، مهما بلغت هوامش الاختلاف والتباين بين الحليفين.

واقعيًا، لا خلاف بين حركة حماس، وإسرائيل وأميركا وأطراف إقليمية ودولية، على مسألة أن ما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده، فهذا أمر يبدو محسوما ومفروغا منه، بالنسبة للحلفاء والأعداء.. لكن المفارقة أن كل طرف يحاول أن يفرض تعريفه الخاص للمصطلح، على نحو يجعله "يوما له.. لا عليه"، "فاعلا.. لا مفعولا به"، "أساسيا.. لا ثانويا"، "باقيا.. لا متلاشيا".

وبهذا المعنى، يؤشر القتال الجاري في القطاع، بموازاة مفاوضات التبادل المتعثرة، ومعهما الحرب الإعلامية والنفسية، إلى وجود معارك ثلاثة تحتدم يوما بعد آخر، تحت عنوان "البقاء"، و"اليوم التالي.. وهندسته"، وكأن الجميع يتأهب لمرحلة جديدة حتمية، يُراد صياغتها بعد مخاض عسير.. وهو أمر يجعل الحرب الحالية مُغايِرة لسابقاتها، مضمونًا وسياقًا، إضافة إلى كونها كارثية ومُدمِّرة.

في هذا السياق، تشير المعطيات المُسرّبة من مصادر سياسية مطلعة على مجريات مفاوضات وقف إطلاق النار، إلى أن الولايات المتحدة حرصت طيلة هذه الجولات على عدم نقاش موضوع "اليوم التالي" مع حركة "حماس"، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر؛ لأن واشنطن تعتقد أنها إذا فعلت هذا، فإنها تكون قد أقرت بحضور الحركة في اليوم التالي الذي تعكف على صياغته في إطار تراكمي، ولو أخذ تحقيقه على أرض الواقع مزيدا من الوقت، وفق ما يدور في تفكير الدوائر الاستراتيجية الأميركية.

ولذلك، واظبت أميركا على نقاش الأمر، ومقترحات عديدة بخصوصه، مع أطراف إقليمية ودولية كثيرة، باستثناء حماس. والجديد في هذا، هو أن إدارة بايدن بدأت تتحدث أخيرًا عن تقديم مقترحات محددة بشأن اليوم التالي، بحسب مسؤولين أميركيين.

والحال أن ما يُمكن استنتاجه، هو أن التزامنية الأميركية بين تقديم المقترحات، وإعلان مبادرة بايدن لوقف إطلاق النار في غزة، ومرورا بدفع واشنطن نحو صدور قرار من مجلس الأمن بهذا الشأن، كلها مرتبطة بتقدير الولايات المتحدة بأن عامل الوقت مهم لها، من منطلق السباق مع الوقت؛ لاستثمار ما حققته الحرب؛ لصياغة "اليوم التالي" الذي تريده.

وهنا، يُستشف من التسريبات السياسية، وما وراء مواقف أمريكيا وتصريحاتها، أن الخلاف بين الإدارة الأميركية وإسرائيل يتمحور حول الخشية من أن طول الحرب قد يضر بأهدافها، ويُفشل الجهود الخاصة ب"اليوم اللاحق"، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى مطالبة حكومة نتنياهو من جديد بضرورة تعجيل إنجاز عملية رفح، وعدم الذهاب إلى حرب شاملة في في لبنان.. إذ أن أميركا تعتقد أن حكاية "اليوم التالي" تقتضي جهودا سياسية تراكمية مبنية على "ما حققه الحرب"، إضافة إلى مراعاة عامل "السباق مع الزمن"، ومنع أحداث دراماتيكية تأتي بنتيجة عسكية لما تخطط له واشنطن.

وفي خضم ذلك، نرى أن الضغط النفسي والسياسي قد تصاعد أكثر على حماس من قبل أميركا، بالترافق مع مطالبة الأخيرة لإسرائيل بالإسراع في الانتهاء من عملية رفح البرية في غضون أسبوعين.

فالولايات المتحدة تتعاطى مع "اليوم التالي للحرب على غزة"، كحلقة متصلة بخطوات متوازية تدفع بها، وخاصة موضوع التطبيع مع مزيد من الدول العربية، خلال الأشهر القريبة.

وتحاول أميركا، وأطراف غربية أخرى، أن تضغط على حكومة نتنياهو بأكثر من وسيلة، من أجل القول للمجتمع الإسرائيلي، إن انتخاب اليمين المتطرف يعزل إسرائيل عالميا، ويقوضها أمنيا وسياسيا.. وهي وسائل تحاول أطراف غربية أن تنتهجها بهدف الضغط نحو تغيير المشهد السياسي الإسرائيلي، لتيسير عملية "اليوم التالي في المنطقة برمتها.. لا غزة وحدها".

وفي هذا الإطار، تسعى إدارة بايدن إلى توظيف مبادرتها لوقف إطلاق النار في سبيل إحداث انقسامات في حكومة اليمين المتطرف، على نحو يقود إلى تفكيكها، أو على الأقل انسحاب وزراء متطرفين، وتطعيمها بوزراء أقل تطرفا، مثل بني غانتس، ويائير لابيد. والدافع الأميركي من وراء هذه الخطة هو تذليل "العقبات" أمام التطبيع مع السعودية، وبلورة شرق أوسط جديد، عبر تشكيل حلف "سياسي-أمني" في المنطقة، تربطه اتفاقيات "الدفاع المشترك". وهذا سيناريو يتطلب حكومة إسرائيلية بلا متطرفين، مثل إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، بحسب الرؤية الأميركية.

السلطة الفلسطينية بدورها، تتعرض هي الأخرى لضغوطات بهدف تغيير وظيفتها وشكلها، بحسب ما تؤكده أوساط قيادية بالسلطة.

إذ تظهر السلطة في أصعب ظروفها، نتيجة مواجهتها أوضاعا مالية أكثر تعقيدا، وبروزها في صورة "المريض" و"الضعيف" أمام الفلسطينيين والعرب والعالم، بموازاة ضغوطات أمنية واقتصادية واجتماعية يواجهها الفلسطينيون في الضفة الغربية؛ بفعل ممارسات الجيش الإسرائيلي، والمستوطنين.

وتقدر مصادر سياسية أن هذه المعطيات في الضفة توحي بأن شيئا ما يُراد صياغته بالنسبة لها أيضا، ضمن حلول جديدة، قد تكون بعيدة عن "حل الدولتين" الذي رُوج له على مدار ثلاثة عقود، وهي حلول يبدو أن فرضها رهينة "اليوم التالي للمنطقة برمتها".

 أما إقليميا، تتأهب إيران وحلفاؤها لسيناريو أن تكون غزة بداية لتغييرات قادمة في المنطقة، وسط مخاوف لديها من أن تؤول التغييرات إلى كبح نشاطها الإقليمي. ولهذا السبب، يخوض حزب الله مواجهة مع إسرائيل منذ 8 أكتوبر الماضي، كما دخل الحوثيون في اليمن وجماعات عراقية مقربة من طهران على الخط، وأطلقت إيران صواريخ وطائرات مُسيّرة نحو إسرائيل في أبريل الماضي، مباشرة من أراضيها لأول مرة، ضمن مشهدية أرادتها للبعث برسائل إلى أميركا وإسرائيل، والدول العربية، مفادها بأنها "لاعب نرد في المنطقة"!

 وهذا استنتاج أكده أمين عام حزب الله حسن نصر الله في أول خطاب له بعد اندلاع القتال في جبهة لبنان، حيث برره حينها بوجود معطيات لدى حزبه أن إسرائيل كانت تنوي تنفيذ هجوم استباقي ضد الحزب، وأنه ذهب إلى المواجهة لإفشال هذا "الهجوم الاستباقي".. وهو ما يدل على أن ما يجري بمثابة معركة وجودية للأطراف المنخرطة بها.

وسط ذلك، يغيب أي مشروع فلسطيني، أو عربي، لفرض نفسه في سياق "اليوم التالي"، في حين تبدو كل من أميركا وإيران الطرفين المنتصرين في نهاية المخاض!


الصورة: لآفي أوحيون - مكتب الإعلام الحكومي.

أدهم مناصرة

صحافي فلسطيني يعمل في الإنتاج الاخباري والسياسي التلفزيوني، إضافة إلى عمله معدا ومقدما لبرامج إخبارية وحواريّة إذاعية لنحو 15 سنة. كما يكتب باستمرار تقارير ومقالات سياسية واجتماعية، وأخرى ذات صلة بحرية الرأي في العديد من المواقع والصحف العربية والمحلية. وكان قد عمل مديرا لراديو يمن تايمز في العاصمة اليمنية صنعاء عام ٢٠١٣.

رأيك يهمنا