أنا وأبي وابني وكريستيانو رونالدو

ابني البكر من عشاق كرة القدم والمشجعين المستميتين لرونالدو، والحقيقة أنني لا أعرف تحديدًا كيف ومتى هبطت علينا تلك المفاجأة بهذا العشق غير المتوقع.

فجأة، أضحت حياتنا في ليلة وضحاها قناة تلفاز تبث على مدار الساعة أخبارًا حول كرة القدم ولاعبي كرة القدم المحببين على ابني، وبالأخص منهم رونالدو. من الصباح وحتى المساء أجلس لأسمع ابني يتحدث بشغف وإعجاب عن حياة رونالدو الشخصية، عن سياراته، أمواله، بطولاته، أهدافه، حياته الصعبة في طفولته. وهكذا تحول رونالدو من شخص مجهول يعيش مئات الكيلومترات بعيدًا عني ولا يعنيني بأي شيء، سوى أنني أشاهده أحيانًا وفي فترات متباعدة جدًا يركض وراء الكرة في الملعب، إلى شخصية أساسية حية في حياتنا. وكلما حاولت أن أوجه دفة الحديث إلى موضوع آخر، تجتاحني نظرات ابني المؤنبة بأنني أم "غير جيدة" لأنني لا أبادله الشغف بالمثل، فأعود إلى مجلسي ويزداد غضبي المتراكم على ذلك الرونالدو الذي اقتحم حياتنا فجأة وبلا دعوة؛ حتى جاء اليوم الذي سمعت فيه ابني يسألني بعد نقاش حاد بيننا "شو عملتي انت في حياتك قبال شو عمل رونالدو؟!".  

أذكر في تلك اللحظة أنني توقفت عن جلي الصحن الذي سقط من يدي وتحطم على أرضية المطبخ، والتفتُّ إلى صغيري غير مصدقة ما سمعته أذناي، وسؤال واحد يصدح بأعلى صوت في رأسي- هل إبني، الذي أنهكتني الحياة لأربّيه نِعم التربية، نطق بهذه الكلمات فعلًا ورمى هذه المقارنة في وجهي؟!

 في لحظة غضب صادقة أجبته: "صحيح! أنا لا اشبه رونالدو، فأنا تخليت عن الكثير من الأحلام لأربي أولادًا يقللون من احترامي، فقط لأنني ضحيت بحياتي المهنية والشخصية لأجلهم، بينما هم لا يقدّرون أيًّا من هذه التضحيات... يومًا ما ستكبر وسيكون لديك أولاد إن اردت وستتخلى عن الكثير من الأحلام من أجلهم، وستكبح جماح خيالك لتربيهم، وستفهم عندها أن أمك في حياتها البسيطة الخالية من الرفاهيات والترف تستحق التقدير أكثر بكثير من رونالدو الذي حوّله العالم من شخص عادي إلى إله لمجرد أنه يقوم بضرب كرة فيدخلها في المرمى!" 

حقيقة أنني ندمت بعد أن نطقت بهذه الكلمات، فبعد أن خرجت من رأسي وسمعتها على لساني شعرت أنني أتحدث كأم وامرأة مقهورة. أنا التي ترفض أن ترى نفسها يومــًا ضحية متحملة مسؤولية أي قرار اتخذته في حياتها بحب ورضى كاملين، بما في ذلك قرار الأمومة؛ غير أن الحقيقة أن مقارنتي برونالدو وإهانة أمومتي أخرجتني عن توازني المعهود!

جلست لأيام أفكر في هذه الجملة – ابني يراني أقل قيمة من رونالدو؟! حقًا؟ ألا يجب أن يكون الأهل هم الأبطال في قصة أولادهم والمثال الأعلى الذي ينظرون إليه بإعجاب... تمامًا كما في مسلسلات الكرتون التي ترعرعنا عليها؟!

 أنا لا أقلل من قيمة نجاح أي شخص وأنا متيقنة أن اللاعب المذكور عمل بجد للوصول إلى ما هو عليه اليوم، ولكن أنا أيضًا عملت بجد عندما قضيت أخر ثماني سنوات من عمري كوالدة وحيدة أربي طفلين بمفردي وأؤدي دورَيّ الأب والأم معًا، ماديًا ومعنويًا!

 أنا أيضًا عملت بجد محاولة تحقيق التقدم المهني والأكاديمي، علمًا أن عدم وجود شريك حياة لتربية أطفالي معي جعل هذه المهمة أصعب بأضعاف من وضع أغلب الأمهات والآباء الذين يتقاسمون مهمة التربية وأعباء المنزل. ولكن بالرغم من هذا، ولأنني ناجية ولست ضحية، تحديتُ الظروف وصممتُ أن أتولى مناصب إدارية وأنا راضية في قرارة نفسي عن جميع إنجازاتي، مدركة حقيقة التعب والطاقات التي استنفدتها لتحقيقها، حتى بت أشعر أن قوتي بدأت تخونني وجسدي بدأ يغدر بي!

كيف لا يرى ابني أمه المكافحة المتعبة التي تعيش معه تحت سقف واحد، بينما يُعجب بشخصية بناها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لتحل محلي؛ بل لتحولني أنا وتعبي إلى أضحوكة مقارنة بالقصة التي حبكت حول رونالدو وإنجازاته؟!

كأم، من حقي أن أكون البطلة في قصة أطفالي، تمامًا كما كان أبي بطل قصتي وكانت أمهات وآباء الأطفال يومًا أبطال قصص أبنائهم وبناتهم!

 وفجأة عدت بمخيلتي لأكون تلك الطفلة التي تجلس في حضن أبيها تتابع معه مسلسل فوازير رمضان على الكنبة المخملية في بيتنا الأول... وكأن الزمان أعادني إلى تلك الأيام التي كان لنا أبي فيها قدوتنا الأولى...

نعم، قدوتي هو أبي الذي لم يكمل دراسته وأنهى تعليمه عند المرحلة الإعدادية، ولكن مع هذا كان يتحدث 4 لغات بطلاقة. هو الذي لم يتعلم يومًا إدارة الأعمال في الجامعات، ولكن استطاع في العشرينات من عمره إنشاء مصلحة تفوق تطلعاته بكثير.. هو المثقف القارئ للكتب وصاحب أقوى بصيرة عرفتُها في حياتي!

 قبل أسبوع استيقظت صباحًا لأجدني ابنة 40 عامًا وتساءلت قي قرارة نفسي – ماذا عن المرحلة القادمة؟! وكم تمنيت حينها لو كان أبي معي لأستشيره وأستمع إلى رأيه ... بعد الكثير من سنوات التنقل والسفر، تغير الوجوه التي نلتقيها، مرور الزمان والأمكنة، وإنجاز سيرة مهنية وعلمية لا بأس بها.. لم أجد بطل قصة أخر يستحق أن أتطلع اليه سوى أبي أو "المعلم" (بالعامية) كما كنا نلقبه.

في عالمنا البائس الذي يختلق أبطالًا من وهم، تنتجهم وسائل التواصل الاجتماعي، "تفلترهم" وتقدمهم لنا منتجًا مثاليًا خالصًا، مرفقين بسجل بطولات وهمية، تحولنا نحن الذين نواجه تحديات حقيقية يوميًا لنحافظ على بيوتنا وأطفالنا وصحتنا النفسية والذهنية وقوت يومنا إلى كائنات ثانوية في حيوات أطفالنا.. أشبه بمزودي خدمات لا أكثر! شخصيات هزيلة مقارنة بأبطال الميديا الذين يتسربون إلى عقول أطفالنا، مقنعين إياهم بأن الإنجاز الحقيقي يُقاس بعدد السيارات التي تمتلكها وفخامة البيت الذي تسكنه وكمية الذهب الذي يتدلى منك، وليس بعدد الليالي التي لم تنم بها لتسهر على راحة طفلك المريض.. أو حتى تنازلاتك عن احتياجاتك الشخصية لتوفر احتياجات أطفالك، بما في ذلك التنازل في بعض الأحيان عن سعادتك الشخصية من أجل راحتهم!

أريد أن أكون أبي في قصة أولادي... وعلى استعداد لتقبل مشاركة البطولة مع أشخاص آخرين - ولكني أفضل ألا يكونوا وهميين وألا يتم تهميش جهودي في إيصالهم إلى بر الأمان.. فهل أطلب الكثير؟!

حنان مرجية

محامية ومحاضرة وناشطة نسوية مختصة في قضايا النساء والعمل

شاركونا رأيكن.م