ما وراء السلوك الظاهر في الوالديّة

كُلّنا نخوضُ التّجربة الوالديّة ونحن محمّلون بأنماط تفكير تبلورت خلال سنين سبقت الزّواج. هذه الأنماط هي وليدة تفاعل عدّة سياقات وعوامل أهمّها المعطيات الوراثيّة للفرد، تربية الأهل، قيمهم ومعاملتهم له، عوامل سياسيّة- اقتصاديّة، عوامل ثقافيّة وأُخرى بيئية مُحيطة، كدرجة المحافظة والتديّن ودرجة الأمان والأمن في المحيط وغيرها من العوامل. ليس ثمّة نتائج واحدة تندرج في قالبٍ وحدويّ إلى جانب هذه التفاعلات. وهذا على إثر الاختلافات بين الأفراد تمامًا كقولنا في بنان الإنسان وأنامله. على خلاف ذلك، فإنَّ الإنسان يبدو قادرًا على رسم بصمةٍ أُخرى جديدة لنفسه. 

تعكس تلك السّياقات والتّجارب أفكارًا حول بواطن النفس وظاهرها وعن أشخاص آخرين يشاركوننا الحياة ذاتها. بناءً عليه، فإنَّ فهمنا للممنوعات يُعبّر عن النتيجة المرتقبة عند اختراقها. على إثر ذلك، طوّرنا طُرقًا نواجه من خلالها الأوضاع والحالات الّتي لا تروق لنا. وطوّرنا طُرقًا نشعر من خلالها بالقيمة والانتماء للمجموعة. إليكم بعض العيّنات الّتي تعكسُ تجاربَ وأنماط تفكيرٍ مُختلفةٍ. مع هذه الأنماط والمفاهيم يدخل الزوجان إلى الشّراكة الزوجيّة والتجربة الوالديّة. 

العصاميّ، مثلًا، هُو شخصٌ قادر على فهم نفسه وفهم ظروف حياته، ويمارس قدراته بدلاً من ممارسة دور الضحية العاجزة. فهو ليس ضحيّة معيقات تعترضه. يجتهد وربّما يشقى كي يحصل على ما يريد. يرى أنّ الآخرين ليسوا مجبرين على تزويده بكلّ ما يطلب. كلّ مساعدة من الآخرين مباركة ومقدّرة. نظرته إلى الحياة واقعيّة وناضجة ومع كلّ تحقيق هدف نجده يفرح ويفتخر بما حقّقه. 

خلافاً له، يستنتج المتذمّر أنّه ضحيّة الظروف الخارجيّة وأنّه مظلوم ولا يحصل على ما يستحقّ وأنّ الحياة غير مُنصفة وفي الغالب يشعُرُ بالظُّلم والمرارة. من خلال هذه الاستنتاجات يتعامل مع نفسه ومع الآخرين. ما الفرق بين العصاميّ والمتذمّر؟ أترك الردّ لكم ولخيالكم من خلال شخصيّات في محيطكم. 

أمّا المدلّل، فهو يفهم منذ طفولته أنه مركز الكون وأن مهمّة الآخرين الأساسية في الحياة هي الاهتمام براحته وتلبية كلّ ما يحتاجه وربّما ما لا يحتاجه أيضاً. وأنّ الحياة رحلة جميلة سهلة لا عثرات فيها وإن حصل ووجدت أي عثرة فالآخرون سوف يزيلونها ويسهلونها له. وماذا لو لم يحصل هذا التجنّد من المحيطين؟ هنالك من يغضب ويقطب جبينه، ومن يجد كلّ طريقة ممكنة ليحصل على ما يريد. فالكذب ممكن والتحايل أيضًا والصراخ والبكاء وغيرها.

بعيدًا عن الدّلال نجد المضحّي الذي فهم أن دوره في الحياة أن يضحّي لأجل راحة وسعادة الآخرين وأنه يكتفي بالقليل. وفي التّضحية ينال الفرد إعجاب المحيط، وخاصّة أولئك الّذين فهموا أن الآخر مجبور على أن يضحي من أجلهم فيقعون في فخّ تعزيزات المحيط من خلال تعابير تقال عنهم، مثل "ما في أطيب من قلبه" أو "ما في أحسن منه". هذا النمط سائد في الغالب بين الإناث مع العلم أن لبعض الذّكور نصيباً منه أيضاً. 

بين المدلّل والمضحّي نجد الواقعيّ المتوازن. ما يميّزه عن سابقيه أنّه يدركُ أنّ الحياة ليست له وحده وأنّها شراكة وتحوم فيها دوائر الأخذ والعطاء. فنجده يطّور لنفسه توازنات يحقّق من خلالها رغباته وحاجاته دون أن يلغي الآخرين. لديه قدرة على التعاطف مع الآخرين وإدراك حاجاتهم. شخص كهذا تعلّم كيف يضبط حاجاته ليتيح مكانًا لغيره. فهو مسؤول تجاه نفسه وتجاه الآخرين. في الغالب، هذه الفئة لديها قدرة على تحمّل الإحباط. 

لا يخفى على أحد التحدّيات الموجودة في سيرورة الوصول إلى الصيغة الأمثل لكلٍّ من الزوجين حيث أنّ كُلّ واحدٍ منهما يُدْخِلُ هذه الشراكات مع أنماط تفكيره وحاجاته وقناعاته. غالبًا، يبدأ الزوجان دورهما الوالديّ قبل أن يصلا إلى التوازنات الضروريّة في الحياة الزوجيّة ولهذا انعكاساته في الوالديّة الّتي لا تخلو هي الأخرى من التحدّيات والتخبّطات.  

الوالديّة تبدأ بحلم وخيال يختلط بالواقع لحظة الولادة. ينسج الزّوجان أحلامًا جميلة حول المولود يريدانها أن تصبحَ واقعًا فينشغلان، منذ الولادة، بنحتِ وتصميمِ المولود ليشبه ذلك الحلم. ولكن على خلاف نحت التّماثيل، يخرج الطفل من ضيق الرّحم إلى سعة هذه الحياة مُحمّلاً بالجينات والمعطيات الّتي اكتسبها من والديه، وله حاجات جسديّة ونفسيّة واجتماعيّة، ممّا يصعّب عمليّة النحت ويجعلها محمّلة بالإحباط والعجز. فلغرض النّحت يستخدم الأهل أدوات منوّعة تسير بتناغم مع أنماط تفكيرهم. فالذي استنتج أنه مركز الكون قد يلجأ للعصبية أو للتوبيخ واللّوم كنحّات لا يبخل بأيّ أداة تساعده في مهمته. وقد تكون العصبيّة غطاء للخوف من الملامة لمن استنتج أنّ قيمته وتقديره لنفسه يكمن في رضى الآخرين عنه فتكون العصبية أداة للحفاظ على قيمته.

أمّا الذي طوّر نمط التضحية فهو يعمل ليل نهار ليريح أولاده فيمنع عنهم أي جهد هم قادرون عليه، فيلبّي كُلّ ما يتمنّاه الطفل وكُلّ ما لا يتمنّاه ولا يحتاجه، ظنًّا منه أنّ عدم تلبية رغبات الطفل تعرّضه للألم والإحباط فيصنع منه طفلًا عاجزًا غير قادر على التماسك وضبط النفس ويُضعف حصانته النفسيّة وقدرته على الاجتهاد للحصول على مبتغاه. بالإضافة، فإنّ هذا التوجّه يعزّز التمركز في الذّات ويُضعف الاكتراث إلى حاجات الآخرين أو للظروف المادّيّة والبيئيّة المحيطة. مسكينٌ هذا الطّفل لأنّه فهم أنّه يجب في هذه الحياة أن يحصل على كل ما يريد دون أي جهد، وأنّ الآخرين دورهم هو تلبية حاجاته وأنّه يجب ألا يمرّ في حالات احباط ومواجهة لواقع لا يرضيه. أترك لكم التفكير بالأنماط الأخرى التي ذكرتها أعلاه وانعكاسها في الوالديّة وأن تضيفوا من خيالكم أنماطاً أخرى.

من هنا، أهمية الإدراك لما وراء سلوكنا في تربية الأبناء وإدراك الأبعاد النفسيّة والصحيّة لسلوكنا علينا أولاً ومن ثمّ على أبنائنا. فأهمّ ما يحتاج إليه أبناؤنا هو والديّة داعمة، مُتيحة ومتوازنة خالية من التقلّبات. 

د. كميليا إبراهيم-دويري

معالجة نفسية، مرشدة والدية ومحاضِرة أكاديمية

د. احمد حمدان
من اجمل ما قرأت سلاسة في ترتيب المعلومة ، امثلة واضحة ومعبرة، مقالة مهمة جدآ واقترح أن يتم قرأتها بشكل مشترك من الوالدين
الخميس 1 حزيران 2023
ريحان عاصلة
مقال عميق وبسيط في ذات الوقت، شكرا لهذه الاضاءات الهامة .
الخميس 1 حزيران 2023
انتصار خضور
حبيت المقال جدا ولفة انتباهي جملة العصامي لا يلعب دور الضحيه وإنما هو يحاول يبذل مجهود للانظباط والنجاح والسعي وراء تحقيق الذات
الجمعة 2 حزيران 2023
انتصار خضور
مقال مثري وممتع جدا واشجع قراءته
الجمعة 2 حزيران 2023
سارة دلة مطانس
كالعادة دكتورة طرح محفز للتفكير يعرض الافكار بطريقة واقعية ومفيدة للقارىء . شكرا لك
الجمعة 2 حزيران 2023
سهير شباط
روعة دكتورة كاميليا
الأحد 4 حزيران 2023
هيفاء حمارشه
من اجمل وامتع ما قرأت شكرًا لك
السبت 17 حزيران 2023
رأيك يهمنا