الترجمة: بين التثاقف والدبلوماسية الثقافية

هل يمكن لطفل فلسطيني باسم نور أن يسكن في كيبوتس ياجور؟

كيف تحوّل كيبوتس مجيدو إلى قرية سالم؟

بين صفحات الأدب المترجم، تتشابك الثقافات وتتقاطع الكلمات مع الحدود السياسية والقومية، ويجد جوهر التبادل الأدبي عبر الثقافات التعبير الأكثر سحراً في عالم أدب الأطفال. تنغمس الفضاءات وتصبح الترجمة أداة للتعبير السياسي.

في النسيج المعقد للتبادل الأدبي العالمي، يعمل التفاعل بين الثقافات من خلال الترجمة بمثابة حيّز مجازي للتواصل البشري وسد الفجوات التي تفرضها الحواجز اللغوية. هذا النشاط المركّب يحمل في طياته ازدواجية فعلية تتمثّل باستيعاب عناصر وسرديات أجنبية، إلى جانب امكانيات الحفاظ على الهوية الفردية. لكن لهذا النشاط التبادلي الأدبي هناك مقاربات تعتمد علاقات القوة والوعي لها مفهومين قطبيين: التثاقف والدبلوماسية الثقافية.

التثاقف

التثاقف هو مصطلح يعرض التغيرات التي يمر فيها الفرد أو المجموعة في الجوانب الاجتماعية والنفسية والثقافية أثناء تكيفهم مع الثقافة السائدة الجديدة التي انكشفوا عليها، إلى جانب الاحتفاظ بعناصر من ثقافتهم الأصلية. يمكن أن تكون العملية تدريجية على مدى أجيال أو تتسارع نتيجة عوامل مثل الضغوطات الاجتماعة أو السياسية الدافعة للتأقلم السريع. على الرغم من تعدد النظريات في علم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع حول مفهوم التثاقف، إلا أن التركيز يكون في معظم الأحيان على كيفية استجابة الأقليات للثقافة المُهيمنة، بما يشمل استراتيجيات التثاقف المختلفة.

يتضمن التثاقف تبادل عناصر ثقافية مختلفة وتكييفها بين المجموعات المختلفة، ولذلك يمكن أن تؤدي ترجمة الأدب من ثقافة إلى أخرى إلى نقل الأفكار والقيم ووجهات النظر بين تلك الثقافات. ترجمة الأدب بين لغتين تحمل أثقال ثقافتين مختلفتين، لهذا لا نتوقع من المترجم الاكتفاء بالانتقال بين اللغتين بل نفترض أنه واعٍ كذلك للفروقات الثقافية الدقيقة والتعابير والمراجع التي قد لا يكون لها مرادفات مباشرة في الثقافة المستقبلة للترجمة. تتطلب هذه العملية غالبًا اتخاذ خيارات حول كيفية نقل المفاهيم الثقافية بطريقة مفهومة ويمكن ربطها بالجمهور الجديد مع الحفاظ على جوهر العمل الأصلي. من خلال هذا الوعي للاختلافات الثقافية يقوم المترجم بإدخال عناصر من ثقافة المصدر إلى ثقافة هدف، مما يساهم في عملية التثاقف. ينكشف قُرّاء الأدب المترجم لطرق تفكير وتقاليد ووجهات نظر مختلفة، قد لا تتماشى مع ثقافتهم مما قد يؤدي إلى انكشاف أكبر على الثقافة الأخرى. في الوقت نفسه، قد يخضع الأدب المترجم أيضًا لتغييرات لتتماشى مع الحساسيات والتوقعات الثقافية للجمهور المستهدف، وهو ما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال التكيّف مع الثقافة الجديدة.

الدبلوماسية الثقافية

نوع ثانٍ من نقل المفاهيم بين الثقافات هو الدبلوماسية الثقافية التي تمثّل شكل استراتيجي ودقيق من العلاقات الدولية التي تسعى إلى تعزيز التفاهم والتعاون بين الدول من خلال تبادل أشكال التعبير الثقافي والأفكار والقيم. يعترف هذا النهج بالأثر العميق للثقافة في تشكيل التصورات وبناء الجسور بين المجتمعات المتنوعة. من خلال تعزيز التبادل الثقافي والتعاون الفني والبرامج التعليمية والمبادرات الثقافية الأخرى، تهدف الدبلوماسية الثقافية إلى تجاوز الحواجز السياسية والأيديولوجية، وتعزيز التفاعل السلمي، حيث تبرهن هذه الممارسة قوة الثقافة كأداة لبناء التواصل الثقافي وتطوير العلاقات بين الثقافات المختلفة.

تعريف من هذا النوع، كما جاء في الفقرة الأخيرة، يعرض الدبلوماسية الثقافية بشكل "دبلوماسي" ملحوظ، حيث يعرضها بصورة ايجابية جدًا. إلا أن الدبلوماسية الثقافية هي كذلك أداة سياسية قاسية وشديدة الوطأة، حيث بامكانها تفعيل قوة ناعمة غير ملحوظة على ثقافة الهدف. أحد أبرز الأدوات لتفعيل هذا النوع من الدبلوماسية الثقافية هو من خلال ترجمة أعمال أدبية من ثقافة الأصل إلى ثقافة الهدف.

الترجمة، التي كثيرا ما يتم الإشادة بها باعتبارها حجر أساس في الدبلوماسية الثقافية، تستحق إجراء فحص نقدي لدورها وحدودها في هذا السياق. في حين أن الترجمة لديها القدرة على تسهيل التواصل بين الثقافات وسد الفجوات اللغوية، إلا أنها يمكن أن تساهم كذلك في ديناميكيات السلطة والقوة الناعمة. يتضمن فعل الترجمة بطبيعته اختيارات يمكنها إعادة تشكيل الرؤيا والخطاب المتعلق بثقافة ما، ومحو بعض الخصوصيات والتمييزات التي تحملها. علاوة على ذلك، فإن اختيار الأعمال المراد ترجمتها والترويج اللاحق لهذه الترجمات يمكن أن يعكس أجندات سياسية أو اقتصادية، وبالتالي يؤدي إلى تحريف تمثيل التنوع الثقافي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتعرض فعالية الترجمة كأداة للدبلوماسية الثقافية للخطر بسبب عدم المساواة في الوصول إلى موارد الترجمة، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تفضيل اللغات السائدة وترك الأصوات المهمشة غير مسموعة. لذلك، في حين أن الترجمة يمكن أن تكون بمثابة وسيلة لفتح الحوارات وتبادل الأفكار كما يقترح مصطلح التثاقف، فإن مخاطرها المحتملة تسلط الضوء على الحاجة إلى نهج مدروس وشامل وواعٍ للسياق السياسي والاجتماعي لضمان نقل صورة مركبة حول ثقافة الأصل لثقافة الهدف، عوضًا عن إدامة التحيزات والتفضيلات الشمولية وهيمنتها.

الترجمة والقوة

الاختلاف المركزي بين التثاقف والدبلوماسية الثقافية في هذا السياق هو القوة الكامنة في كلٍ منها. في حين تهدف الدبلوماسية الثقافية إلى تسهيل التفاهم المتبادل والعلاقات الإيجابية بين الثقافات المختلفة، فإنها لا تنطوي بالضرورة على نفس عمق التكيّف والتكامل الذي يحدثه التثاقف. يشير التثاقف عادةً إلى عملية دمج جوانب ثقافة ما في ثقافة أخرى على مستوى الفرد أو المجموعة، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب الاتصال المباشر أو التعرض لثقافة جديدة. أما الدبلوماسية الثقافية فهي تسعى لتغيير الخطاب الموجه لها في ثقافة الهدف. في جوهرها، تتضمن كل من الدبلوماسية الثقافية والتثاقف تفاعلات بين الثقافات، لكن الدبلوماسية الثقافية هي جهد متعمد لتعزيز مفهوم خطابي معيّن يشمل تفعيل قوّة ناعمة، في حين يتضمن التثاقف عملية أوسع وأكثر تعقيدًا في كثير من الأحيان من التغيير الثقافي بسبب الاتصال المستمر بين الثقافات.

بشكل عملي، يمكن التمييز بين نوعي الترجمة بناءً على هدف الناشر أو المُمَوّل لهذه الترجمة، وأي قوى تكمن في لب نشاطه الترجمي. عندما يكون تمويل الترجمة هو تمويل حكومي، فهي بالعادة تكون ترجمة تهدف لدبلوماسية ثقافية، لها إيجابياتها وسلبياتها في تسليط القوة المتمثلة بأدواتها الأدبية، تجاه ثقافة لهدف. أما عندما يكون تمويلها خاص ويعتمد على خيارات الناشر وأهدافه (المادية أو المعنوية) فهي تحمل في طياتها ميّزات أقرب إلى التثاقف. بكلمات أخرى، تلعب ديناميكيات القوة دورًا محوريًا في جهود الترجمة في هذه السياقات. مدعومةً بمبادرات حكومية، تستخدم الدبلوماسية الثقافية الترجمة كأداة استراتيجية لتعزيز توجه خطابي محددي لتطوير علاقاتها الدولية. هذا الشكل من الترجمة مدفوع بالرغبة في التأثير على التصورات وتعزيز القوة الناعمة لثقافة المصدر على الساحة العالمية. في المقابل، عندما يدعم ناشرين أفراد مشاريع الترجمة، فإن التركيز يميل إلى التحول نحو تبادل أكثر عضوي للأفكار. تكون هذه الترجمات أقل التزامًا بالأجندات السياسية وأكثر استجابة لقيم الناشر الشخصية أو أهدافه التجارية. بالتالي، فإن مثل هذه الترجمات تلعب دورًا أبرز بالمساهمة في التثاقف. تؤكد هذه الديناميكية كيف أن مصادر التمويل والدوافع الأساسية تشكل بشكل كبير ما إذا كانت الترجمة تخدم غرض الدبلوماسية الثقافية أو تتماشى أكثر مع مفهوم التثاقف.

تحفّظ وكالي

بالرغم من هذا، لابد من التأكيد على وكالة الأفراد في سياق التمويل الحُكومي والتمويل الخاص للمشاريع الترجمية. بالرغم مما عرضت حتى الآن، لا شك بأنه في أغلب الأحيان، يملأ الوكلاء الناشطين على اختيار الكتب المرشحة للترجمة دورًا مركزيًا في امكانية تحقيق أي من النوايا المقترحة أعلاه، ان كانت دبلوماسية أو تثاقفية بحتة. قرار ترشيح كتاب معيّن للترجمة، أو رفضه، نادرًا ما يأتي من جهة خفية أو من تفعيل قوة سياسية، إنما يتم على يد وكلاء اختيار الامكانيات المقترحة. امتيازات هؤلاء الوكلاء، تتمثّل في قدرتهم على التأثير على الحقل الأدبي في ثقافة الهدف، وتتعلّق بمدى تلاحمهم مع مجتمعاتهم.

وكيل آخر لا يقل أهمية، هو طبعا المترجم الذي يتمكّن توظيف اللّغة كأداة لصقل المقولة السياسية التي ترافق الكتاب المترجم في رحلته نحو لغة وثقافة الهدف. مهما كانت مقولة الكتاب مسيّسة، وايديولوجية، يتمكّن المترجم الواعي لعلاقات القوى الأدبية من إعادة بلورتها أو الحفاظ عليها من خلال ترجماته. أحد أبرز الأمثلة على هذا السياق نجده في أدب الأطفال الصهيوني المترجم إلى اللغة العربية، الذي أعمل بهذه الأيام على دراسته وسبر أغواره.

مثلًا في كتاب "أين بلّوط" المترجم عن "آيي بلوتو" (איה פלוטו) العبري لليئة غولدبرغ، وهو كتاب صهيوني بامتياز، نجد الجملة الافتتاحية "بلوتو جرو من كيبوتس مجيدو" تتحوّل إلى "بلوط جرو من قرية سالم". تحويل كيبوتس مجيدو لقرية سالم على يد المترجم مفيد صيداوي، هو نشاط سياسي مقاوم من الطراز الترجمي الأول، حيث نجد صيداوي يسترد المكان، ويفكك الكيبوتس لينقل الجرو إلى حيّز فلسطيني مجاور للكيبوتس. تغيير البطل من بلوتو إلى بلّوط (المرتبط بالتواصل مع الجذور والتمسك بالأرض) إلى جانب تغيير الحيّز السياسي، يحّول الكتاب لأداة بيد المترجم لعرض مقولة سياسية مقاومة للترجمة الصهيونية للعربية من خلالها.

أين بلوط

أين بلوط

بالمقابل، في كتاب "مسيرة أولاد" المترجم عن "تاهلوخا شِل يِلديم" (תהלוכה של ילדים) العبري لداليا كوراح-سيغيف، وهو كذلك كتاب صهيوني بامتياز، نجد وكالة المترجم متفككة وصهيونية بنفسها. جملة مثل "[الطفل] غور يسكن في كيبوتس ياجور"، تُترجم إلى "نور ساكن في كيبوتس ياجور". أي أن الشيء الوحيد الذي تغيّر في الترجمة هو نقل قومية الطفل من يهودي يسكن كيبوتس إلى عربي يسكن كيبوتس. تجاهلًا للخيال العجائبي المتمثل بسكن الطفل نور العربي في كيبوتس، يمثّل خيار المترجم، نجيب نبواني، موقفًا سياسيًا تربويًا يسعى لكشف القارئ الطفل الفلسطيني على بيئة الحياة اليهودية الاستيطانية في بلاده.

مسيرة أولاد

مسيرة أولاد

هذين مجرد مثالين بسيطين جدًا لامكانيات الوكالة المختلفة في مشاريع دبلوماسية ثقافية متأثرة من السياق الاستعماري الاستيطاني للحالة الفلسطينية في ترجمة أدب الأطفال الصهيوني إلى العربية للقراء الفلسطينيين. في قراءة عميقة لكل من الكتابين يمكننا كشف خفايا وخبايا ترجمية مركّبة لاستراتيجيات تمرير الايديولوجيا الصهيونية أو المقاوِمة لها من خلال أدب الأطفال. الوكالة هنا ليست حصريّة بيد المُموِّل، بل تنتقل إلى يد المُترجم، الذي يختار نشاطه السياسي من تحفّظه ويعرض صورة مختلفة للتثاقف منزوع الدبلوماسية الثقافية أو العكس.

لؤي وتد

باحث في ثقافة الأطفال والفتيان، ومحرر موقع "حكايا"

الهام دعبول
مقال بغاية الأهميّة. انّ مقولة استعمال التّرجمة بين العربيّة والعبرية كأداة للتجسير بين الشّعبين، لهي مقولة مضلّلة تتستّر خلفها حالة من التّضليل للمتلقّي ..
الجمعة 1 أيلول 2023
رأيك يهمنا