التكنولوجيا في الحُروب: ما سَقفها ومَنْ يَضبِطُها؟
في عَصر السُّرعة وتطوّر الاتصالات الذي نعيش، أصبحَ استخدام التكنولوجيا في الحروب موضوعًا معقّدًا يتطلّب تأملًا عميقًا في الأخلاقيات والضوابط التي تتحكم به، خاصة أمام تَمادي البعض في تطوير التكنولوجيا وتوظيفها في تَعظيم القتل والردع وهزيمة الخصوم دونما ضوابطَ أو قيود.
ورغم فداحة المَقْتَلة التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية طيلةَ عام منصرم تقريبًا فإنّ تفجيرَيّ أجهزة النداء والاتصالات الأخيرين في لبنان أعادا فتحَ النقاش المتصاعد حول التحدّيات آنفة الذّكر والأخلاقيات المحدِّدة لاستخدامات التكنولوجيا في الحروب.
في هذا السياق، ونتيجةَ التطوراتِ السريعة الطارئة على الأسلحة والتقنيات العسكرية، فإن تغييرات جذريّة في طبيعة الصراعات وكيفيّة إدارتها ستصبح حقيقةً ماثلة أمام العالم، حيث سينطلق وبكلّ أسف كثيرٌ من الدول نحو تعزيز إدخال التكنولوجيا وتطبيقاتها العسكرية المتنوعة إلى منظومات تَسليحه طَمَعًا في تحقيق التفوق العسكري المنشود.
واليوم، ومع تنامي هذا الأمر، فإن استخدام التكنولوجيا في الحروب لا يَقتصر فقط على تطوير أسلحة أكثر دقّة وفتكًا، بل يمتد ليَشمل استخدام الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار، وأنظمة المراقبة وغيرها الكثير، وهو الأمر الذي يثير في جُملته المزيدَ من التساؤلات الواقعية حولَ الآثار الإنسانية والأخلاقية.
ولفهم هذا الأمر ببُعده القانوني، علينا التدقيق في ملفات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي يُعتبر من المنظمات الأساسية الساِعية لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في النزاعات المسلحة. ففي عام 2013، أصدرت لجنة الأمم المتحدة المستقلة لتقصّي الحقائق حول سورية تقريرًا أكدت على أهمية الحفاظ على القيم الإنسانية، خاصة في أوقات النزاع واستخدام التكنولوجيا والأسلحة على تَنوّعها. وقد أظهر هذا التقرير آنذاك كيف يُمْكن أن تؤدي التكنولوجيا إلى انتهاكات فادحة إذا لم يتم توجيهُ استخدامها وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان، فالسماء هي الحدود في إِعْمالِ التكنولوجيا في آلة الموت، خاصة مع دُخول مكوّنات جديدة إلى الميدان، كالطائرات المُسيّرة مثلًا. إن استخدام هذا النوع من الطائرات إنّما أصبحَ سمةً بارزة، ويثير جدلًا كبيرًا حول أخلاقيات الهجمات، خاصةً مع استخدام هذه الطائرات لاستهداف الأفراد والمنشآت والآليات والسفن والبنى التحتية.
وفي تقريره للعام 2015، أكّد مُقرر الأمم المتحدة الخاص حَول حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، أن استخدام الطائرات بدون طيار آنذاك، إنما يَنتهك حقوق الإنسان، خاصة في سياقات تفتقر إلى الشفافية والمُساءَلة، فما بالُكُم مع تطور تلك الطائرات لتصبح مسيّرات أصغر حجمًا وأكثر فتكًا؟
وفي مَعرِض مراجَعتِنا لاتفاقية جنيف الرابعة، التي تُعنى بحماية المدنيّين في أوقات الحرب، برز مفهوم "التناسب" و"التمييز" في الهجمات العسكرية، إذ يتوجّب على جميع الأطراف المُتحاربة -حسب الاتفاقية المذكورة- اتخاذ التدابير المُمْكنة كافّة لتقليل الأذى الذي يَلحق بالمدنيين. ولكن، كيف يُمكن ضمانُ أن تَلتزم التكنولوجيا المستخدمة في الحروب بهذه المبادئ؟ إذ غالبًا ما يتم استخدام الأنظمة التقنيّة المُتقدّمة بشكل يؤدي إلى زيادة التعقيد في تحديد المسؤوليات عن الانتهاكات، وليس تبسيطَها، وذلك بغَرض إضاعة المسؤولية والفرار مِن القصاص والملاحقة العدليّة.
وقد بَرزت في السنوات الأخيرة مسألةُ استخدام الذكاء الاصطناعيّ خاصة في إطار اتخاذ قرارات الحرب والتخطيط لَها وتنفيذ فصولها، مما يعكس تحولًا كبيرًا في الاستراتيجيات العسكرية في إطار كسب الحروب وحَسمها بالسرعة الممكنة مَهما بَلَغ حجم الموت والعدوان.
أكّد الخبراء، في تقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2021، على ضرورة وضعِ قواعدَ واضحة لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب بطريقةٍ تحترم القانون الدولي وتتجنّب الانتهاكات المُحتَمَلة.
وفي هذا الإطار، بدأت بعض المبادرات الدولية في الظهور بُغية تنظيم استخدام الأسلحة المتقدّمة، فعلى سبيل المثال، تم اقتراح معاهدةٍ عالمية بشأن حظر الأسلحة المستقلّة ذاتيًا، والتي ستَحُدّ مِن استخدام التكنولوجيا العسكرية القاتلة بدون تدخلّ بشري.
وتتصاعد في هذا السياق الأصوات المطالبة بتطوير إطار قانوني يُنظّم استخدام هذه الأنظمة، مما يشير إلى الحاجة الملحّة لاعتبار الأخلاقيات جزءًا أساسيًا من النقاشات المتعلقة بالتكنولوجيا في الحروب.
وبذلك، تحتاج الجيوش وصنّاع القرار إلى التدريب على القيم الآدمية وحقوق الإنسان، لضمان أن كلّ استخدامٍ للتكنولوجيا يَخضع لمعاييرَ أخلاقيةٍ صارمة. ويهدف هذا التدريب إلى زيادة الدراية والتقليل من الانتهاكات ورفع مستوى الوعي حول تبِعات استخدام التكنولوجيا في النزاعات المسلحة.
وعلى الرغم من التحديات الكبيرة، فهناك أمل في تحقيق التوازن بين الابتكار التكنولوجي وحقوق الإنسان عبر تطوير المعايير الدولية، بإصرار المجتمع الدولي برمّته، والذي بدأ يُدرك أهمية تحديد ضوابطَ استخدام التكنولوجيا في الحروب. ورغم تعدّد العناوين فإن مجلس حقوق الإنسان هو المنبر الأساسي والمرشح لمناقشة هذه القضايا وتطوير سياسات تَدعم الالتزام بالقانون الدولي.
في الختام، يظَلّ موضوع أخلاقيات استخدام التكنولوجيا في الحروب موضوعًا ملحًا يتطلب تضافر الجهود بين الحكومات، والمنظمات الدولية، والمجتمع المدني، إذ يَنبغي أن تسعى جميع الأطراف لضمان توظيف التكنولوجيا لتحقيق السلام، وليس القتل وتعزيز العنف. وفي عالم يَشْهَد تطوير التكنولوجيا بشكل مُتسارع، مِنَ المهمّ الحفاظ على القيم الإنسانية التي تُشكّل الأساسَ لحياة كريمة، حتى في ظل الصراعات المسلحة.
ملاحظة: المقال مُدعّم بتقنيات الذكاء الاصطناعي.