العُمّالُ الفِلسطينيّون في زَمَن الإِبادَة: "عُراة" في مُواجَهَة "ماكينَة" الانتِقام
"قَبل الحَرب، كُنت أضع علم فلسطين في سيارة النقل الّتي أعمل عليها. في إحدى المرّات، أثناء مُروري عبر حاجز، سألتني مجنّدة عَن العلم وقالت لي إنّه ممنوع، ثم سَحبته مِن داخل السيارة. بَعد هذا الموقف، وضعتُ عَلم الأردن مَكانه، وعَمدتُ المرور مجدّدًا مِن الحاجز ذاته. أوقفني حينها جنديّ وسألني عن العلم، فأجبته: 'ماذا ترى؟ إنّه عَلم الأردن'، أخرَجه ونظر إليه، ثم قال: 'كل الاحترام'"، يقول تامر جاد الله (32 عامًا) من الضفة الغربية، ويضيف:
"ظلّ علم الأردن معلّقًا في السّيارة لسنوات حتى جاءت الحرب. قبل عدّة أشهر، خلال نَقلي التلاميذ إلى مدرستهم، مررنا عبر أحد الحواجز، وإذ بجُندي يَضرب شباك السّيارة بسلاحه. سألَني عن العَلم، فأخبرته أنّه علم الأردن. سَحبه مِن السيارة، فسألته عن السبب، فقال إنّه نالَ إعجابه، ثم بدأ بالتلويح به والغناء. منذ ذلك الحين، لم أضع علمًا في السّيارة".
ويُتابع جاد الله: "في هذه الحرب، يتعاملون مَعَنا وكأننا وحوش. اليوم، عندما أمُرّ عَبر حاجز، أَجِدهم يصوّبون الأسلحة نحوي على بعد 20 مترًا، بالإضافة إلى إجراءات التفتيش وزيادة عدد الحواجز والإغلاقات. كلُّ هذه العوائق تُؤخّر وُصولي إلى الزبائن، كما أنّ الطُرق أصبحَت أطوَل، وصَلتُ إلى حالة لم تعدْ لديّ رَغبة في العَمل".
حَظْرُ العَمالَة الفِلسطينيّة كَعِقاب جَماعيّ
مَع اندلاع الحَرب في أكتوبر الماضي، أُصدِر قرار فوري بِحظر شامل على العمالة الفِلسطينية. كان هذا قرارًا عميقَ التأثير وشكّل سدًّا مَنيعًا أمام مئات آلاف العائلات الفلسطينية الّتي تكدّر عيشها، إذ كانت تَعتمد بشكل أساسي في معيشَتها على العمل داخل أراضي الـ48. تُعتبر هذه الخُطوة تصعيدًا غير مسبوق، حيث قررت الحكومة جَلب 45 ألف عامل أجنبي، وأعلنت في آذار الأخير عن جَلب عشرة آلاف آخرين.
بعد السابع من أكتوبر الماضي، أضحى نَحو 200 ألف عاملٍ فلسطيني، كانوا يعملون داخل أراضي الـ48، بلا عَمل. ويُشكّل هؤلاء نحو 22% مِن القوى العامِلة في الضفة الغربية، ويساهمون في نحو ربع الناتج القومي الإجمالي فيها.[i]
ومّما زاد الطين بلّة، الإغلاقات المستمرة في الضفة الغربية، ومنع دخول فلسطينيي الداخل إليها، الّذين كانوا يساهمون بشكل كبيرٍ في دَعم اقتصادها. وفقًا للبنك الدولي، بَلَغت نسبة الفقر في غزة 100٪، بينما ارتفعت في الضفة الغربية من 12 إلى 28٪، نتيجةَ الحربِ وتداعياتها.
سياسةُ الانتِقام تَطال العمّال
مَع بدايةِ الحَرب، أصدر "المنسّق" العام المسؤول عن إصدار التصاريح للعمال الفلسطينيين أوامرَ بوقف فوريّ لتصاريح العمل كافةً. في أعقاب هذا القرار، عاد سيلٌ مِن العُمال الفلسطينيين مِن الضفة الغربية أَدراجَهم. أما العمّال الغزيّون، فقد كان مِن نصيبهم الضرر الأكبر، إذ تم اعتقالهم والتَنكيل بهم على الحواجز أثناء هروبهم إلى الضفة الغربية.
يَقول "وهبة بدارنة"، رئيس نقابة العمّال العرب في الناصرة: "شَهِدت بداية الحرب فوضى عارمة وحالة مِن الخوف في صفوف العمال الغزيين، الّذين كانوا أوّل الناس عرضةً للانتقام والاعتداء، بل وحتّى للقتل. ورَغم شَراسة الحرب، اختار بعض العمال الغزيين العودة إلى القطاع، ليواجهوا اعتقالات واعتداءات ساديّة ووحشيّة وصلت حدّ الاغتصاب".
ويُضيف: "يوجد تعتيم مُتعمّد مِن قِبل المؤسسات العَسكرية ومَصلحة السُجون. أُفرِج عَن آلاف العُمال، وتم تمرير 30 جُثّة تَعود لعمّال مِن قِطاع غزّة عَبر حاجز إيريز. وَصَلتنا شهادات مِن عائلاتهم عن وُجود علامات تنكيل وَحشيّ لا تُصدّق، وشهادات أخرى عن تَعرية العمال وإجبارهم على ترديد أغانٍ بالعبرية وَرَفع العلم".
انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مَقاطع عديدة تُظهر التنكيل بالعمال الفلسطينيين. كان آخرها مقطع يُظهر سيارات شرطة تُغلق شارع 6 وتُلقي القبض على عمال فلسطينيين، بسبب الاشتباه بِقيامِهم بِحَدث أمنيّ. كذلك دفعت الشرطة بقوات معززة ومروحيّة إلى المكان، ونَشَرت صورة يَظهر فيها شرطي يبدو فخورًا ومِن خلفه عمال مكبّلون على الأرض.
وعَن ذلك يقول بدارنة: "عندما يُعتقل العامل الفلسطيني، تُوثَّق عملية الاعتقال وكأنّها عملية عسكرية. [إيتمار] بن غفير[وزير الأمن القومي الإسرائيلي] هوَ مَنْ منحهم الشرعية عندما صرّح: 'إنّ اعتقال عامل فلسطيني هو عَمل مِن أعمال الحرب تمامًا'".
مِن جهة أخرى، يرى بدارنة أنّ عدم توفير عَمل للناس، وسَلبهم كرامتهم واستقلاليتهم، سيُبقي الوضع متفجرًا.
أصبحَ نَحو 120 ألف عامل فلسطيني مِن الضفة الغربية عاطلين عن العمل. وقد بَلَغ عدد شهداء لقمة العيش منذ بداية الحرب العشرات، بينهم عمّال مِن الضفة الغربية، أحدُهم استُشهد عند عودته من العمل في بلدة الظاهرية قضاء الخليل، إثر اعتداء جنود الاحتلال عليه. https://2u.pw/toAUc9qI
الدّاخِل جُزء مِن سياسات الانتِقام
"في الداخل أيضًا، فُصل ما لا يقل عن 470 عاملًا مِن عملهم، بسبب نَشرِهم منشورات أو تعاطفهم مع أبناء شعبهم. وفُصل عمال آخرون لأَن أرباب عملهم لم يرغبوا بِتَشغيل عمال عرب. يمكنني القول إنّ 90% من حالات الفصل من العمل كانت بلا إطار قانوني، وجاءت في سياق الانتقام"، يقول بدارنة.
ويُكمل: "خلال الحرب، تم الإعلان عن 'قانون الشاباح'، الّذي يَنص على أنّ كلّ مَن يُشغّل عمالًا فلسطينيين، سيُعاقب ويُصادر حِسابه البنكي ويُسجن فعليًّا. لقد رأينا أنّ هذا القانون طُبّق على المُشغّلين العرب، بينما لم يُطبّق على المُشغّلين اليهود الّذين كان لديهم عمال من الضفة".
الهدف من هذا القانون يقول بدارنة "هو معاقبة فلسطينيي الداخل إذا أرادوا التَعاطف مع العمال الفلسطينيين. الشعب الفلسطيني كلّه مُستهدف، سواء في الضفة، أو في الداخل أو في غزة. برأيي، حَمْلة الاستهدافات هذه ستحمل أبعادًا ومخاطرَ كثيرة، ولا أَحد يُمكنه التنبؤ بعواقبها".
لا أفق للعمال الفلسطينيين
يقول أمين (اسم مستعار، 28 عامًا) مِن طولكرم، وهو مُعيل لعائلته بسبب غياب والده: "عملتُ في الداخل لثماني سنوات متتالية حتّى اندلاع الحرب. ولو رغبت اليوم في العمل بدون تصريح في الداخل، فهناك عراقيل تقف أمامي؛ الطُرُق أصبَحت أطول بسبب الإغلاقات والحواجز. سابقًا، كُنت أصل إلى الداخل في نصف ساعة، أمّا اليوم فأحتاج إلى ساعة ونصف. كما أنّ الأهل والأصدقاء يرفضون عَملنا في الداخل، فَنحنُ نُشاهد مَقاطع التنكيل بالعمال الفلسطينيين. أصبحتُ أفضّل العمل هنا، رغم أنّ أجورنا تتراوح بين 50 إلى 70 شيكلًا في اليوم، بينما كنّا نتقاضى سابقًا بين 35 حتى 38 شيكلًا في الساعة".
ويُردِف: "منذ السابع مِن أكتوبر هناك احتقان أمنيّ، وتَحدُث الاقتحامات كلّ يومَين أو ثلاثة. لدَينا أطفال في العائلة وبيتُنا يَقع في الشارع الرئيسي لمخيم طولكرم. قَبل أربعة أشهر، اضطررت للخروج مع عائلتي مِن المخيّم الّذي سكنّاه، لم يكن قرارًا اتخذناه بملء إرادتنا، بل اضطررنا لتنفيذه".
لا يرى أمين أفقًا ومستقبلًا للشباب، ويحدّثني عن محاولته فَتح مشروع "مَطعم متنقّل" برفقة أخيه، لكنه سرعان ما أغلَقه، تحديدًا بسبب عَدم إمكانية دخول فلسطينيي الداخل إلى الضفة الغربية، والذين كانوا يُساهمون بشكل كبير في نجاح المشاريع التجارية. يقول أمين إنّه رَغم كلّ ذلك، يَبقى وضعه أفضل مِن غيره، حيث عَرَف رجالًا اضطروا لبيع ذهب نسائهم ليتدبّروا أمورهم.
تَسير سواقي الأيام، تتداخل مباني القَهر وعتبات المستقبل لا تزال مجهولة. نقاط تَفتيش متناثرة على الطرقات، اقتحامات شِبه يومية في الضفة، اعتقالات وتنكيل بكل ما هو فلسطيني، وانتقام يَتَجاوز التقسيمات الاستعمارية. بحسب بدارنة، هناك قرابة 60 ألف عامل يعملون اليوم بدون تصاريح عَمَل في الداخل الفلسطيني، هؤلاء العمّال لا يهابون المَوت، ولم يَعُد يهمّهم ما قد يَحدث لهم، بات شغلهم الشاغل هو العمل، فهناك عائلات لَم تَعُد تستطيع توفير ثمن رَبطَة خُبز.
[i] (المصدر- [i] IMF. 2023. “West Bank and Gaza.” International Monetary Fund, Middle East and Central Asia Dept. Volume 2023 (327).