مشاهدات لواقع تَخيُّلي

 كثيرًا ما أتوقف وأتأمل المشهد من حولي، ثم أتساءل بَيني وبَيني: كيف حدث ذلك؟ وهل يمكن أن يصدق العقل ما يجري؟ إذ كلّما تحركت داخل شقة صديقي شريف يوسف أبو سعد بمخيم الشاطئ، المحامي المعروف، وجلست على أريكته وقرأت من مكتبته، ازدادت الغصة في قلبي، إنه هناك يعيش في خيمة رفقة عائلته التي نزحت إلى الجنوب رغم أنفها، بينما أعيش أنا في بيت عائلته المكون من خمسة طوابق، أتحرك فيه كيفما أشاء، هذه شقة أحمد الذي فَقَد في طريقه إلى وسط قطاع غزة، طفله المولود حديثًا بعدما أصابته شظية قذيفة مدفعية، اقتلعت روحه وهو في حضن أمه داخل السيارة. تلك شقة العم أبو أشرف، ذلك الرجل الصامد، الذي يحبه كل أهل المخيم، فَقَد ابنه خليل في انتفاضة الأقصى الثانية، وقد كان يحلم أن ينتهي ابنه من الدراسة ليسافر إلى الإمارات برفقة أخيه أشرف، لكن العم أبو أشرف للأسف يفقد شيئًا منه في هذه المقتلة، بعدما أصيب هو وزوجته في خيمة النزوح إصابات صعبة، ليس ذلك فقط، بل إن ابنته هديل التي عادت من الإمارات قبل الحرب بأيام قليلة، أصيبت في مَقتل، وتعرّضت لتشوهات كبيرة، وعاشت فترة طويلة موتًا سريريًا حتى خرجت إلى مصر ثم إلى الإمارات قبل سيطرة الاحتلال على محور فيلاديلفيا. فَقدت هديل، التي تعمل محامية في مؤسسة عريقة بالإمارات، روحها وشغفها وشيئًا من جسدها في هذه المقتلة، وقد كانت في زيارة قصيرة إلى هذا الوطن الذي يتوق للسلام ولا حصل عليه يومًا كما يقول شاعرنا محمود درويش.

في الطابق الثالث، حيث أجلس وأكتب شهاداتي ومقالاتي وقصصي، شقة تشبه شقق أثرياء المدينة، لشاب يعشق الحياة، يسافر كل فترة، ويسعى لاكتشاف أدق تفاصيل هذا الكون الفسيح، غادر مدينة غزة رغم أنفه إلى منطقة الوسطى لأنه لا يريد الموت، إنه يتمسك بقشّة الحياة، لأن في جعبته الكثير ليقدمه لنفسه وأسرته وعائلته التي تشبه الفرنسيين في جمالهم وأناقتهم، لكنه كغيره أصابه سهم البلاء، استشهدت ابنتاه وأمهما في تل الهوا، وقد كان يجهز لهما تذاكر السفر للإقلاع من هذا الجحيم إلى رحابة المدن الأخرى التي لا تشبه غزة، ولا يزال يندبهما حتى لحظة كتابة هذا المقال عبر بوستاته وتدويناته في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن أمام هذا اليباب العظيم والاعتياد على دمنا الذي يُهرق، لا أحد يلتفت إلا لمحيطه الغارق في الخوف والوجع، كأن الناس سكارى، والهرجُ اخترقَ البيوت والأجساد والقيامة أوشكت.

في الطابق الرابع، شقة متواضعة للأخ الذي يصغر شريف بعامين، متدينٌ يجيد قراءة القرآن، ويحفظ منه ما تيسر، بشوش الوجه دائمًا، سمحٌ إذا تحدث وإذا ضحك وإذا بكى، فقد ابنه أيضًا هناك، في الملاذ الآمن بدير البلح، ولا أمن إلا بوجه الرحمن. إذ كذب الصهاينة وقالوا لنا جميعًا، اخرجوا من مدينة غزة واذهبوا عبر الممرات الآمنة إلى جنوب وادي غزة، وظلوا يضربوننا بالمدفعية والهاوزر والقنابل الدخانية ثم صواريخ الـF16 التي أحرقت الأخضر واليابس، فخرج عبد اللطيف برفقة العائلة بعد الطامة التي لطمت وجوههم وأزهقت أرواحهم، بفقد أخيهم محمد الذي يقطن في الطابق الخامس.

فمحمد الشاب البريء، الباحث عن عمل، المتزوج منذ سنوات قليلة، قرر الخروج لاستطلاع ما جرى إبان السابع من أكتوبر، فإذ برصاصة تخترق جسده وتقتله، ليصلي عليه المخيم في مسجد التوحيد المحاذي لمخيم الشاطئ من الجهة الغربية الجنوبية.

وفي الأعلى عند المسطبة الأخيرة تجلس زوجتي كل يوم، منذ طلوع النهار إلى غسق الليل، تشعل الحطب لتصنع من أجلنا الطعام، وقد أوشك الحطب أن ينتهي ولا شيء في المدينة كلّها سوى الدم.

كثيرًا ما أسأل زوجتي: هل كنت تتخيلين أن نجلس على هذا الحال في بيت لا ينتمي لنا؟ لو قلت لك ذلك، ماذا كنت ستقولين عني؟ فترد بجدية: والله لقلت عنك مجنون أو مْخَرفن "خرِف". فأي جنون هذا الذي يحدث الآن؟ أصحاب البيوت يعيشون في خيام ممزقة تحت صهد الشمس، وفي الشتاء يغرقون مع أطفالهم الذين يتوعكون من شدة المرض، بينما نجلس في بيوتهم، ننام فيها كأننا بتنا جزءًا منها، وأخذت حيزًا من ذاكرتنا البصرية وعوالمنا وذكرياتنا التي ستصعد معنا عاليًا إلى الله.

نحن هنا في شمال غزة محاصرون، مهددون كل لحظة بالخروج إلى جنوب القطاع، لأننا الصامدون القاهرون لعدونا، لذلك نجوع، لا نجد ما نأكله، دخلنا ذلك البيت نبحث فيه عن طعام، كما أفلام هوليود التي تخلو فيها المدن من البشر، ولا يبقى سوى بطل يبحث عن طعام كي يختفي مرة أخرى في بيت مغلق الشبابيك والأبواب، وما زلنا نبحث عن طعام، وما زلنا صامدين.

في هذه المدينة، التي لطالما قرأنا أنها كانت مقبرة للغزاة، اكتشفنا أنها مقبرة لأبنائها أيضًا، وصارت الشوارع قبور، البيوت قبور، المتنزهات قبور، لدرجة أنني كتبت ذات مرة لهول ما رأيت: إذا وجدت ترابًا، ازرع شهيدًا. وها نحن كل يوم نزرع عشرات الشهداء، بينما يتجاوز العالم أخبارنا، وقد اعتاد قتلنا وتمزق أشلاء أطفالنا ونسائنا، اعتاد العالم مشاهد النزوح التي تجري كل يوم للناس في جنوب القطاع من خيمة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، بينما تسقط قذائف الهاوزر التي أسمعها لحظة كتابة هذه الشهادة في كل مكان، دون أن تأبه بإزهاق أرواح الأطفال الذين لا يعرفون شيئًا عن الموت،كأن قدر الفلسطيني أن يظل محاربًا يشبه الساموراي، ويتقوى بتلك الظروف على المرحلة المقبلة. تلك المرحلة التي يؤمن أنها قادمة لا محالة وهي إلزام الاحتلال بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية وتطبيق قرارات الأمم المتحدة بتحقيق مبدأ حل الدولتين.

هذا يقين الفلسطيني المتجذر بأرضه، لن يحيد عنه تحت أي ظرف.


الصورة: للمصوّر - الصحفي عبد الرحمن زقوت.

يسري الغول

روائي وقاص باقٍ في شمال غزة.

سناء محمد
من ارقي واصدق الكتاب الذين صادفتهم في غزة كل الاحترام والتقدير للاستاذ يسري
الأحد 6 تشرين الأول 2024
اسعد طلبه
يسري .ابو انس . فخر لكل ابناء المخيم
الأحد 6 تشرين الأول 2024
محمد أبو كويك
دمت ودام قلمك المميز د. يسري
الأحد 6 تشرين الأول 2024
رأيك يهمنا