صرخة النساء في منطقة "إطلاق النار"
شعرت بالأرض تتزلزل حين رأيته يسقط أمام عينيّ. شعرت بأنّي فقدتُ كلّ شيء، كلّ شيء. حضنته، ورأيته وهو يُغمض عينيه وجسده بلا حراك. صرتُ أصرخ وأطلب أن يُحضروا سيّارة إسعاف. استمرّ الجنود بإطلاق النار في الهواء. أحضر جارنا أشرف سيّارة حتّى ننقله للمستشفى، فأطلق نفس الجندي النار على عجلات السيّارة كي لا نستطيع التحرّك
هذا ما قالته لي فارسة، والدة هارون أبو عرام، عندما التقيتها في الكهف الذي يأويها وعائلتها في خربة الركيز في مسافر يطّا. كان جسد هارون الساكن طريح الفراش الرثّ، وفقط رأسه وعيناه الخضراوان يتحركّان ليؤكّدا أن هناك حياة ما كانت هُنا قبل أن يُطلق عليه جنود الاحتلال الرصاص حين حاول التصدّي لمصادرة موّلد كهرباء منزلي.
التقيتُ فارسة وحنان وعشر نساء من سكّان المجمعات السكانيّة في منطقة مسافر يطّا في الركن الجنوبي الشرقي من الضفّة الغربيّة المُحتلّة، ضمن مبادرة لإطلاق أصوات النساء والوقوف عند تبعات الترحيل القسري الذي يهدد هذه المجموعات الفلسطينيّة على النساء والأطفال، بعد أن تم استنفاد جميع الأدوات القانونية. تهدف المبادرة إلى الوقوف عند التزامات إسرائيل للقرار 1325 لمجلس الأمن لحماية النساء في مناطق النزاع المسحلّة، وتسليط الضوء على أهميّة الإسناد الجماهيري والعالمي لمنع تشريد أكثر من 1000 فلسطيني وفلسطينيّة من بيوتهم وأرضهم التي يعتاشون على زراعتها ورعي المواشي فيها.
كان يُمكن أن نقُصّ قصّة هارون وفارسة وحنان وغيرهنّ بذات المُصطلحات القانونية والأكاديمية: تطهير عرقي، استعمار إحلالي، إجهاض أي أفق لإقامة دولة فلسطينية سياديّة، ضم فعلي – وغيرها من نماذج التحليل السياسي والفلسفي. كان باستطاعتنا أيضًا الإشارة والطعن في التأويلات القضائية على مدار العقدين الأخيرين لسرد رواية التهجير - المُستمرة – والترحيل الجماعي القسري الذي يُهدد ثمانية خِرَب فلسطينييّة. هذه المداولات القانونية انتهت في أيار المنصرم بمصادقة قضائيّة من المحكمة الإسرائيلية العُليا.
المحكمة إيّاها التي نفت حقّ أهل الارض عليها مُدعيّة أنهم "دُخلاء مُتطَّفلون"، ليتسنّى لجنودها ممارسة تدريباتهم العسكريّة في المناطق المحتلّة تحت غطاء الإعلان عنها (عن المنطقة) "منطقة إطلاق نار"، في حين أنَّها في الواقع وسيلة أخرى للاستيلاء والنهب وتطهير المكان من سكّانه الفلسطيينيين، تحضيرًا لضمّه على مبدأ "أكثر ما يُمكن من الأرض مع أقل ما يُمكن من الفلسطينيين". هذه هي المحكمة التي يتهافت عشرات ومئات آلاف الإسرائيليين والإسرائيليات في الأسابيع الأخيرة للدفاع عنها كأنها الحصن الأخير في "قلعة الديمقراطية".
لكننا في حزيران الماضي، شهران بعد قرار المحكمة الإسرائيلية العُليا النهائي، قررنا أن من سيسردن الرواية الآن هُنَّ النساء. نعم، هؤلاء النساء اللواتي تتقلَّص تجاربهنّ اليوميّة القاسية في ضجّة المأساة الجماعية، وتُغيب – بقصدٍ أو عن غير قصد - تحدّياتهن تحت تحدّيات المجموعة. إيمانًا بأن تجارب النساء هي ضرورة حصرية لإيجاد حلول جذرية، لا تتخطّى عواقبّهنّ واحتياجاتهنّ وطموحاتهنّ، كان لا بُد من إطلاق صرخة هؤلاء النساء القابعات في منطقة "إطلاق النار"، بكل ما تحمل هذه الكلمات من معانٍ.
ونؤكِّد، لا نرى أن النساء إياهنّ لا يستطعن تحليل الواقع بمصطلحات ونماذج فكرية سياسية، على العكس تمامًا – لكنَّ تجربتهنّ اليومية ومواجهتهنّ المستمرة مع القمع الراكنّ أمام عتبة بيّوتهنّ المهددة بالهدم، جعلتهن يستخلصن على أحسن وجه تقاطُع الاضطهاد والقمع: كفلسطينيّات وكنساء. سلسلة بشريّة من النساء قصَّت بكلماتها الحكايّة، كل الحكايّة: مُجتمعات سكّانيّة فلسطينيّة صامدة تحت سيطرة عسكرية و"مدنيّة" إسرائيلية، في خِرَب غير مُعترف بها، بدون كهرباء أو ماء أو بنى تحتيّة. بدون خدمات صحيّة أو تعليميّة – تُعاني ويلات الاحتلال والاستيطان المتمدد وتُكافح يوميًا – أمام التعتيم والتهميش - للتمسّك بحقّها في الأرض والكرامة وتقرير المصير والحُريّة والعدالة.
"البيت" يمكن أن يكون كهفًا أو خيمة أو مجرّد غرفة من باطون أو من صفائح الأسبستوس. في عيون تلك النساء، هذا البيت هو "قصرهن"، قالت سامية. هذا البيت هو الحيِّز للحماية الشخصية، لبناء الهوية والمجتمع، لوجودها الانساني. أمام هذا الكم الهائل من معنى تتجلّى حالة الفقدان المادّي والرمزي للبيت "إنّه الجحيم هنا. يبدو الأمر كما لو أنّنا نعيش في الوقت بدل الضائع" قالت سعاد الذي هُدم بيتها وتقطن اليوم مع أولادها في مبنى مهجور كان يشغَل عيادة في السابق.
مع الوقت (والظُلم) أدركت النساء حجم معركتها ودورها فيها. "كانت النساء تعمل نهارًا والرجال ليلًا حتّى نتمكّن من بناء المدرسة"، قالت كفاح وأردفت سميرة "كنا نرفعهم (أولادنا) على ظهور الحمير ونُرسلهم إلى المدرسة". أربع مدارس متواضعة جدًا (صفّ أو صفّان) تخدم المجتمعات السكّانية في مسافر يطّا، ممّا جعل التعليم متاحًا للفتيات دون الحاجة إلى مغادرة البيت، لكن وخلال كتابة ورقة الموقف تم هدم إحدى هذه المدارس (في خربة أم صفيّ) أمام أعيُن التلاميذ والتلميذات. أمّا المدارس المتبقية ما زالت تقبع تحت إخطارات الهدم.
هُنالك مصاعب واضحة للعيَان، يمكن الإشارة إليها بمجرد الوصول إلى المكان. أمّا التحديّات الأخرى، الشفّافّة، فكنّا بحاجة إلى أصوات النساء الشجاعات لنعرف حجم المعاناة التي تلامس كل طرف من أطراف الحياة. هكذا هو انعدام وجود خدمات صحيّة أساسيّة حيث تضطّر النساء للوصول "على ظهور الحمير" طلبًا للعلاج وللوصول إلى غُرَف الولادة. انعدام البنى التحتيّة، الكهرباء والماء، تُحتِّم على النساء الاستحمام بوعاء في إحدى زوايا الكهف أو المطبخ، في ساعات المساء والظلام. حقّ النساء في الخصوصيّة يُنتهك بشكل متواصِل: عندما يقتحم الجيش ويُراقبهم المستوطنون بواسطة الطيارات المسيّرة، وعندما لا يستطعن أن يتصرفنَّ بحريّة في منازلهنّ هنّ.
سبعة أشهر بعد اللقاءات الممزوجة بالقهر والامل، غادرت روح هارون جسده المُثقل بالجروح والأوجاع، وامتثل أمامي وجه فارسة وحنان. سنتان وشهران، قاوم هارون الرصاص الذي اخترق جسده وأرداه مشلولًا في كل جسده، وقاومت معه فارسة وحنان. في صباح الـ 14.02.2021 استشهد هارون مُتأثرًا بجراحهِ من رصاص الاحتلال. ارتقى مُدافعًا عن "مُولد كهرباء".
عندما وصل خبر وفاة هارون، تراءَت أمامي صُور سُعاد وفاطمة وكفاح وسامية، ودبَّ في جسدي جمود وصقيع – في كلِّ صباح، تقوم هؤلاء النساء مع الخوف أن يكون ابنها "هارون" جديدًا، ويذهبن للنوم مع هذا الخوف.
ملاحظة: هذا المقال يستند على ورقة موقف تم إعدادها من قبل جمعية "إيتاخ - معكِ: حقوقيات من أجل العدالة الاجتماعية" ومركز الطفولة، كتبتها المحامية ريهام نصرة، ووقّع عليها حوالي 40 منظمة نسائية وحقوقية في إسرائيل.
كما يشار الى أن ورقة الموقف كُتبَت بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325 - النساء السلام والأمن، والداعي إلى حماية النساء وضرورة المشاركة النسائية الفاعلة والمتكافئة في صنع القرارات بما فيها تلك المتعلقة بالأمن والسلام.
الصورة: لأحمد الباز من مؤسسة "أكتيفستيلس".
ريهام نصرة
محامية في مجال حقوق الانسان والترافع عن نشطاء سياسيين، وناشطة سياسية واجتماعية